عندما قاد يحيى السنوار عملية طوفان الأقصى ليل 7/10/2023، من بوابة «إحتفالية النقب»، كان يعرف وجهة الحرب التي إفتتحها على العدو الإسرائيلي.
لا أتوهم بتاتا، أنه تعرّض لـ«خدعة إيرانية – إسرائيلية – أميركية». غير أنه كان قد أخذ دوره في الحرب على محمل الجد، وأنه سيخوض حربا عن فلسطين كلها، وعن المسجد الأقصى، وهدفه التحرير، لا التبرير، وإن جاءت الرياح عكس ما تمنى، إذ سرعان ما إنقلبت إلى حرب تبرير لا حرب تحرير، حين أعطى مبررا لإسرائيل، أن تندفع بتلك القوة القوية الإسرائيلية في مقدمتها، الأميركية في خلفيتها، لوضع اليد من جديد على غزة، وتحريرها من السلطة «الحمساوية – الفلسطينية – الإيرانية». بإعتبارها غنيمة حرب بعد الإنقلاب على ما تبقّى من إتفاقية أوسلو.
إن إنزلاق حزب لله إلى «حرب الإسناد» من لبنان، شأنه شأن عملية الطوفان. فالذين خططوا ليوم السابع من أكتوبر، هم أنفسهم الذين خططوا لليوم الثامن منه، وهو «اليوم التالي» لحرب غزة، الذي لا يزال الباحثون في الحروب، يقتلون وقتهم حتى اليوم بحثا عنه، لأنه مرَّ عليهم، في عاصفة اليوم الأول، «وما إستفاقوا إلّا ضحى الغد»، بدليل أن «الحرب الإيرانية – الإسرائيلية – الأميركية»، كانت تريد أن تستيقظ جبهة لبنان، لتعيد النظر، في «نظرية الأرض والشعب والمقاومة»، والتي ضاقوا ذرعا بها.
إنزلق «حزب لله» إلى حرب الإسناد على كره منه، بدليل تردّده منذ اليوم الأول في الثامن من أكتوبر، وهو ما نعتبره بحق، هو «اليوم التالي» لحرب غزة.
بدا «حزب لله» وهو على شفا اليوم التالي (إسناد غزة)، كجواد عنترة، «كان يشكو بعبرة وتحمحم»، كان مترددا في خوضها، أو لنقل في التخويض فيها، فتسارع إليه إيران بالطمأنينة على دوره، وبتخديره بالإطمئنان، على عدم إستجرار الحرب الشمولية لبيئته، فكان يستجيب لهم وهو يخشى.
إنزلق «حزب لله» في حرب «الإسناد»، من بوابة تحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، بعدة قذائف سهلة وبسيطة، ما هشّمت للعدو أنفا. بدا في ذلك كمن يستجرّ إلى الحرب، من طرف الخيط الذي موّه بعناية في الفخ الذي نصب له في المزارع والتلال. ربما سيجيئ اليوم الذي تكشف فيه جميع خيوط هذه الحرب الإستخبارتية الإيرانية -الإسرائيلية – الأميركية بإمتياز.
عشية اليوم الأول لعملية طوفان الأقصى، عصفت بحزب لله العاصفة القوية. دعي إلى الحرب وهو على وجل من دخولها هذه المرة. كانت الأصوات تأتيه من كل الأنحاء ومن كل الأرجاء، في لبنان والعالمين العربي والأوروبي، لتنهاه عن التسرّع في الإنزلاق إلى الحرب. وبدا «حزب لله» مستمعا رصينا لها. ولكنه، كان حتما مأمورا بها، من الجهة المموّلة. كان يبدو متردّدا، يقدّم رجلا ويؤخّر أخرى. كان يقول لجميع هذه الأصوات التي نهته عن الحرب، إنه على وجل، وليس على عجل منها.
طيلة ما يقارب العام من حرب إسرائيل على غزة، كانت جميع التقارير التي توضع عن «حرب الإسناد» في لبنان، لا تعرف كيف تصفها، ولا كيف تصنّفها. فلم تبدِ، إنها من نوع حرب التحرير، لا لمزارع شبعا ولا لتلال كفرشوبا، وإلّا كان من السهل وضعها لدى الجهات الدولية على الأجندة.
كذلك لم تبدِ «حرب الإسناد»، حرب وحدة الساحات. لأنها لم تستطع إقناع الدولة السورية بها. فظلت سوريا خارجها، ولم تطلق طلقة واحدة فيها. أما ساحتي العراق واليمن، فكانت للبيانات والدعايات، والدعابات لتوريط حماس في حرب مع إسرائيل هي أكبر من طاقتها، بحيث لا تستطيع أن تخرج من الورطة التي وقعت لها.
لم يستطع «حزب لله»، طيلة عام بكامله من حرب غزة ومما سمّاه حرب «إسناد غزة»، أن يدعو لما كان يدعو له، بالزحف على إصبع الجليل الأعلى. ظل يردد طيلة الحرب، أن شهدائه يسقطون في الطريق إلى القدس، وهو يدعو إسرائيل جهارا ونهارا، بالإلتزام بالإشتباك المحدود مع العدو الإسرائيلي، بل بالإلتزام بما إطلق عليه مسمّى «قواعد الإشتباك». وأنه لا يخرج عن هذه القواعد أبدا.
طوال أيامه كلها، وخصوصا منذ ما بعد حرب تموز، كان ينادي «حزب لله»، لحماية الجنوب من خلال تمتين جبهة الجيش والشعب والمقاومة. فإذا ما إنزلق في حرب اليوم التالي/ «حرب الإسناد»، نراه كيف يأخذ بصدره وحده الحرب، فلا يستشير الشعب، من خلال إعلام الدولة والتنسيق معها.
ولا ينسّق حتى مع الجيش، بإعتباره المعني الأول بحماية الشعب والدولة والمقاومة. ولهذا باتت البيئة الحاضنة له مكشوفة، إن لم نقل شبه عارية.
قاد «حزب لله» «المقاومة الإسلامية اللبنانية»، إلى حرب لم يستطع حتى اليوم تصنيفها، تماما مثل كاتب، يؤلف كتابا ولا يستطيع تصنيفه. ولهذا بات في وضع محرج للغاية، خصوصا في اليوم التالي من حرب إسناد غزة. سكت على الضيم الذي طاله. فإغتيال القائد العام، الشهيد حسن نصرلله، أذاق اللبنانيين طعم الموت الذي ما عرفوه في تاريخ حياتهم:
تكتّم على البكاء والدموع والجنازة، وهذا ما لم يحصل في التاريخ اللبناني كله، بالإضافة للحديث عن أعظم الإختراقات التجسسية، بعد «يوم البايجر»، ومن ثم «يوم الضاحية».
وقف سماحة الشيخ نعيم قاسم، إلى الشاشة، يشير إلى وكالة الأخ الأكبر، وأشار للأخذ بالعودة عن طريق «إسناد غزة». ثم نراه يغيب عن اللبنانيين. وسرعان ما تأتي رسالة منه، تقول بالتراجع عن الموقف الأول، والاستمرار في حرب الإسناد، حتى رسالة أخرى.
لا يزال حزب لله، يتعثر في مواقفه من حرب إسرائيل عليه، بعد إشهاره حرب الإسناد عليها. فهو واقع بين نارين: نار إسرائيل المنصبة بكل حممها عليه، ونيران إيران، التي أغرقته بالسلاح وبالديون، وهي تأخذ بأذياله اليوم، مطالبة إياه، بإيفائها، «أخذ الغريم بذيل ثوب المعثر» على حد قول عمر بن أبي ربيعة. يرى إلى الجنوب، وقد سويّت قراه الأمامية بالأرض. ويرى إلى «محرقة الضاحية». ويرى إلى شعب بيئته الحاضنة ينادى عليهم بالصوت والصورة، لمغادرة الضاحية و الجنوب والبقاع، وإخلاء الشقق السكنية المتاخمة. فيستجيب الناس على كره منهم، لمأمنهم من النيران العدوّة الغادرة.
حقا، ألّف حزب لله حربا لا يستطيع حتى اليوم، تصنيفها. وهو لا يزال يخوض فيها لقاع لا قرار له. وصار لبنان كله، لا حزب لله وحده، ولا المقاومة وحدها، أمام الحائط المسدود، الذي أحكم حوله، من خلال إستدراجه «للفخ» الذي نصب له في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، للتحرير الذي فتح من ثم على الإسناد وتوسيع الجبهة. فخرجت الأمور من بين يدي «حزب لله». وبات اليوم، في موقف غير محسد عليه، بعد أن كان سيد المواقف كلها.
أما لبنان، فهو يعاني اليوم من تساقطه، جدارا بعد جدار، ورئاسة بعد رئاسة وإدارة بعد إدارة، ومنصبا بعد منصب، حتى بات دولة بلا معنى، إلّا فيما تبقّى بين يديها، من مساعدات حملات الإغاثة، وشعب ترامى في الجهات كلها.
بات اللبنانيون اليوم، بعد حرب لا دفعها عنهم، ولا يستطيعون وصفها، ولا يستطيعون أيضا تصنيفها، أمام السؤال الأخير: هل هم يحتاجون إلى صيغة جديدة؟ أم إلى لبنانين… لا لبنان واحد؟ وإلّا كما قال لهم قاليباف، القائم بدور عبد الحليم خدام سابقا، بلسان زياد الرحباني:
«شو هاللت.. برا.. ولا لبنان بالمرة».
* أستاذ بالجامعة اللبنانية