ليس المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء والنواب سوى بدعة سياسيّة ألبست اللباس الدستوري في اتفاق الطائف، ولا يعدو كونه غطاء لنفاذ المسؤولين من المحاسبة في الهيئات القضائيّة العاديّة. إنه عمليّاً مؤسسة لا تجتمع، ولا تحاسب ولا تقوم بواجباتها. يُعاد إنتخاب أعضائها في كل دورة جديدة للمجلس النيابي من دون جدوى.
السؤال المركزي والجوهري يتصل بالحاجة الفعليّة لهذا المجلس. لماذا على السلطات السياسيّة، ممثلة هذه المرّة بمجلس النوّاب، إنشاء هيئة مستقلة لمحاسبة المرتكبين من المسؤولين أو أولئك الذين تدور حولهم شبهات معيّنة في ملفات معيّنة؟ لماذا لا يُحاسب هؤلاء في القضاء الذي ينظر في الملفات وتسري عليهم الأصول ذاتها التي تسري على سائر المشتبه فيهم؟ ما المنطق الذي يُبنى عليه لإعتبار النواب والوزراء والرؤساء فوق القانون والمحاكم العادية ويتطلب تالياً إنشاء محكمة خاصة لهم؟
ثم، كيف يمكن للطرف ذاته أن يكون هو الخصم والحكم في الوقت عينه؟ بمعنى آخر، كيف يمكن لنواب أن يحاكموا البعض من زملائهم النواب؟ أي إعتبار سوف يُعطى للمقاربة القانونيّة في هذا المجال بدل المقاربة السياسيّة والحسابات المتبادلة والتحالفات؟ وإذا كان ثمّة تخوّف من مسايرة ومحاباة بين النواب المتحالفين، ما الذي يضمن أيضاً ألا يكون هناك كيديّة وانتقام في حال حصلت المحاكمة بين النواب المتخاصمين؟ وإذا كان هذا الأمر ينطبق على النواب، لماذا لا ينطبق على القضاة أيضاً؟ لماذا إحالة القضاة إلى محاكم خاصة؟ ولماذا لا يمثل الجميع أمام المحقق العدلي؟
إن المساعي الالتفافيّة على قرارات القضاء العدلي باستدعاء نواب وشخصيّات إلى التحقيق تثير الشبهات برغبة دفينة بطمس الحقيقة الكاملة خلف انفجار مرفأ بيروت، وعدم كشف كل الملابسات المتصلة بهذا الانفجار الهائل الذي أدّى إلى سقوط نحو مئتي شهيد ومئات الجرحى وتدمير بيروت.
في فرنسا، حكمت قاضية على الرئيس السابق نيكولا ساركوزي بالسجن لمدة ثلاث سنوات لمحاولته رشوة قاض في العام 2014، وهو أوّل حكم من نوعه بحق رئيس فرنسي سابق، وهو سياسي فرنسي عتيق ووزير داخليّة سابق وله دوره في الحياة الوطنيّة الفرنسيّة. لم تجتمع الجمعيّة الوطنيّة الفرنسيّة لمحاولة إيجاد المخارج السياسيّة والقانونيّة لـ”ورطته”، ولم يتوّسل أي من الأحزاب الفرنسيّة أو القوى السياسيّة الوسائل المختلفة لثني القاضية عن اتخاذ قرارها. الالتزام بالقرار كان تاماً وغير قابل للنقاش من قبل ساركوزي وسائر الجهات المعنيّة. الخيار الوحيد المتاح أمامه كان سلوك المسار القانوني والقضائي أي إستئناف الحكم أمام المحكمة الناظرة ومتابعة الإجراءات وفقاً للأصول. لا خطوات فولكلوريّة أو فذلكات قانونيّة أو بهلوانيات سياسيّة. الكل تحت سقف القانون حتى ولو كان في يوم من الأيّام رئيساً للجمهوريّة الفرنسيّة، إحدى أقوى دول العالم.
من هنا، ثمّة حاجة فعليّة لتعديل الدستور عبر إلغاء هذا المجلس نهائيّاً، وذلك بعد إحباط المساعي الراهنة لإسقاط إستدعاءات المحقق العدلي، والضغط في اتجاه مثول جميع المعنيين أمامه وفقاً للأصول. لا حصانة لأحد أمام هول المجزرة التي عاشها لبنان واللبنانيون في الرابع من آب 2020.
أغلب الظن أن صيغة المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء والنواب لا يوجد لها مثيل في أي مكان في العالم، وإذا وُجد ففي الأنظمة التسلطيّة التي تجيد تشكيل الهياكل السياسيّة والمؤسساتيّة الفارغة من أي مضمون جدي، والتي لا تعمل إلا وفق حسابات ومصالح السلطة وأولوياتها. وغالباً ما يكون الإخراج سيئاً والتمثيل سيئاً والأداء سيئاً. ولكن قلما تكترث تلك الأنظمة لمصالح شعوبها. لبنان موضوعه مختلف وتركيبته مختلفة… وسيبقى كذلك!