Site icon IMLebanon

“القضاء الأعلى” صامد في وجه تعيين قاضٍ رديف… الإنفجار يستحيل “انقلاباً”؟

 

 

عدم احترام مبدأ فصل السلطات، صراع صلاحيات، تدخّل سياسي سافر، والمسّ باستقلالية القضاء… هذا بعض ما تضمّنته ردّات الفعل على دعوة وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال هنري خوري لانعقاد مجلس القضاء الأعلى في الحادي عشر من الشهر الحالي، وأبرز بنود الجلسة تعيين قاضٍ رديف في ملف انفجار مرفأ بيروت. المجلس انعقد بغياب رئيسه والقاضي الرديف لم يُعيَّن. وتراكم اهتزاز صدقية القضاء والثقة به ليس سرّاً بالطبع. لكن في ظلّ المراوحة القاتلة وكون تطوّرات الملف لم تكتمل فصولاً، نعود في ما يلي مع أهل الإختصاص إلى ما حصل والطرق المتاحة من هنا.

 

نبدأ من كلام لرئيس مجلس القضاء الأعلى السابق، القاضي غالب غانم، وصّف فيه دعوة وزير العدل مجلس القضاء الأعلى للانعقاد، بالسابقة التي لم يشهد لها مثيلاً خلال عضويته في المجلس لسنوات طوال. أما مدّعي عام التمييز السابق، القاضي حاتم ماضي، فكانت له سلسلة تغريدات مدوّية تحدث فيها عن هرطقات قانونية وقضاء ميليشيوي كما عن سقوط القضاء قبل الدولة. وقد أوضح ماضي لـ”نداء الوطن” أنه “وفقاً لقانون أصول المحاكمات الجزائية، يُعتبر المجلس العدلي – ومعه المحقق العدلي – قضاء استثنائياً وخاصاً. وبحسب القواعد العامة التي ترعى تفسير النصوص الجزائية، لا سيّما الخاصة منها، فهي يجب أن تُفسَّر تفسيراً ضيّقاً جداً. وبما أن النص المتعلّق بالمحقق العدلي أكّد وجود محقق واحد، يتوجّب على المطالبين بوجود محقق عدلي ثانٍ – سواء أكان أصيلاً أم رديفاً – بيان المرتكز القانوني الذي يسمح بذلك. أما في حال عدم وجود نص كهذا، فلا تستطيع أي جهة أن تستحدث مثل هذا المركز كونه مركزاً قانونياً”.

 

ماضي تابع مشيراً في السياق إلى موضوع تعيين القاضي جهاد الوادي محققاً عدلياً إضافياً في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري مؤكداً أن القاضي المذكور لم يتبلّغ قرار تعيينه. وإذ لفت إلى أن ذلك القرار غير قانوني للأسباب المذكورة سابقاً ولانعدام النص، أضاف أن طبيعة عمل المحقق، سواء أكان عدلياً أم عادياً، لا تأتلف مع وجود قاضيَين للتحقيق. وتساءل: “ماذا لو لم يتّفقا على النتيجة، وأيّ من القاضيَين سيضع القرار النهائي وأيّ قرار ينبغي اعتماده؟”.

 

حق أريد به باطل

 

هل تُعتبر دعوة وزير العدل إلى رئيس مجلس القضاء الأعلى قانونية؟ سؤال حملته “نداء الوطن” إلى وزير العدل السابق، البروفسور ابراهيم نجار، الذي اعتبر أن لوزير العدل الحق في دعوة مجلس القضاء الأعلى للانعقاد، إذاً هي دعوة قانونية إنما أراد بها الوزير باطلاً.

 

“كان المطلوب تعيين قاضٍ رديف في ملف انفجار مرفأ بيروت، من هنا كان الالتفاف على القانون لغاية غير تلك التي من أجلها أتاح القانون لوزير العدل استخدام هذه الصلاحية”، بحسب قوله. من جهة ثانية، فقد سبق لوزير العدل الحالي أن اقترح قاضي التحقيق الأول في الشمال، سمرندا نصار، محققاً رديفاً في ملف المرفأ لكن مجلس القضاء الأعلى رفض هذا الاقتراح، وبالتالي تُعتبر الدعوة محاولة لحثّ مجلس القضاء الأعلى على إعادة النظر بقراره، وهذا ما يمكن اعتباره حثاً غير قانوني.

 

فماذا عن رفض القاضي عبود دعوة وزير العدل؟ في ذلك رأى نجار نوعاً من الرد الاستباقي خاصة أن القانون لا ينص على أي عقوبة في حال عدم الاستجابة لطلب الوزير، مضيفاً أن “القاضي عبود كان محقاً باعتبار ما حصل تدخّلاً من قِبَل السلطة التنفيذية في عمل السلطة القضائية، ما جعل البعض يطالب بتعديل القانون وضرورة صيانة مبدأ فصل السلطات”.

 

دهاء السياسة

 

بدوره، أكّد مصدر قضائي مطّلع في “نادي قضاة لبنان” في اتصال مع “نداء الوطن” أن تعيين محقق عدلي رديف هو سابقة غير قانونية، إذ يجب لتحقيق ذلك الاستناد إلى نص خاص وصريح في القانون وهذا ما لا يتوافر في حالتنا الحاضرة. أمّا أسبابها فيعزوها المصدر إلى اثنين: الأول سياسي بامتياز بدليل أن الطلب الذي ورد إلى مجلس القضاء الأعلى تضمّن تعيين قاضٍ رديف للبتّ في طلبات تخلية السبيل محدّداً من بين المسائل الملحة الدفوع الشكلية. “لكن الدفوع الشكلية في الواقع ليست ملحّة. فإذا أتى رديف واعتبر أن الدفع الشكلي بعدم اختصاص القضاء العدلي مقبول وأن القضية هي من اختصاص مجلس النواب والمجلس الأعلى في ما بعد، إنما “يطير” الملف برمّته. وهذا ما استدركه المجلس في قراره، ولو أنه غير قانوني، إذ قام بحذف موضوع الدفوع الشكلية وحصره بموضوع إخلاءات السبيل”، كما يشرح المصدر. أما السبب الثاني، فهو إنساني بحت بحيث لم يكن لدى القاضي عبود خيار سوى البتّ بطلبات الموقوفين، سلباً كان أم ايجاباً، في ظل توقّف التحقيق (أو عرقلته). أما السؤال الأبرز والجوهري الذي أضاء عليه المصدر، فهو سبب الوصول إلى هذا الطرح أساساً والحديث عن محقق عدلي رديف. وأردف معلّلاً: “لأن السلطة السياسية، من خلال وزير المالية، رفضت توقيع مرسوم التشكيلات الجزئية لقضاة محكمة التمييز. فلو وُقّع ذلك المرسوم لكانت اكتملت الهيئة العامة مع إمكانية البتّ بطلب مخاصمة المحقق العدلي وبالتالي كان استُكمل التحقيق. بيد أن عرقلة المرسوم أدت إلى عرقلة استخدام التحقيق بشكل واضح، وتمكّن السياسيون بدهائهم من الالتفاف على الموضوع واضعين القضاء في موقف مخالف للقانون من خلال المحقق العدلي الرديف، بدلاً من أن يقوموا هم بتطبيق القانون وتوقيع المراسيم”.

 

ثمن عدم الإنصياع

 

المصدر نفسه اعتبر أنّ دعوة مجلس القضاء الأعلى للانعقاد، والتي تلت قرار الموافقة على القاضي الرديف، هي قانونية وصحيحة بالشكل لكنها سياسية بالمضمون. والحال أنه سبق لمجلس القضاء، بنسخه الحالية والسابقة، أن توقّف عن الانعقاد في مراحل عدّة ولأسباب كثيرة، من دون أن يقوم وزير العدل بدعوته إلى أي جلسة محدّداً له جدول أعماله. ودعوة كهذه تشكّل خرقاً لمبدأ فصل السلطات حتى لو أجازها القانون. أما انعقاد الجلسة بحضور نائب رئيس مجلس القضاء الأعلى، فقد رآها المصدر غير قانونية هي الأخرى لأن نائب الرئيس، بحسب القانون، يحلّ محل الرئيس أو ينوب عنه فقط عند غيابه، في حين أن الرئيس عبود كان متواجداً في مكتبه يوم انعقاد الجلسة، لكنه تمنّع عن حضورها حفاظاً على الاستقلالية ورفضاً لتمرير الاسم المقترح من أجل سلامة التحقيق. فـ”بين حرفية النص وجوهر العدالة يُفترض تغليب الثانية حتى لو دفعنا الثمن غالياً”، من وجهة نظر المصدر.

 

الحل لن يكون إلا في إقرار قانون استقلالية السلطة القضائية. فالقضاء ليس بخير وهو يخوض معركة شبه وجودية مع السلطة السياسية متمثّلة بالأخص بقضية مرفأ بيروت، كما يقول المصدر.

 

في المقابل، لم ينفِ مصدر في أمانة سر مجلس القضاء الأعلى أنّ القاضي عبود يحاول إيجاد حلّ لطلبات الرد المقدّمة ضد القاضي البيطار. فهذا ما يسعى إليه دوماً، إذ رغم قيام المجلس بما يجب من خلال التشكيلات الجزئية وردّها مرّتين، إلا أن ثمة قضايا إنسانية مطروحة. وكون سير العدالة متوقّف في أمكنة معيّنة، يسعى القاضي عبود لإيجاد الحلول من مبدأ حسّه الإنساني رافضاً الوقوف متفرّجاً، بحسب المصدر.

 

ولفت إلى أن “بيان مجلس القضاء الأعلى ليس الأول من نوعه. فقد سبق وصدرت بيانات مماثلة في العامين 2019 و2020 طالبت باستقلالية السلطة القضائية، لكن البيان الحالي كان عالي النبرة”، موضحاً أن الجمعيات العمومية التي دعا إليها مجلس القضاء الأعلى انعقدت مرّتين في الأشهر الأخيرة، وذلك للوقوف إلى جانب القضاة والمجلس. فالقاضي معتكف قسراً ليس تنفيذاً لقرار أو مطلب بل لتعذّر وصوله إلى مكان عمله في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة. إلى أين ستؤول الأمور، إذاً؟ “نحن كجسم قضائي وسلطة قضائية جزء لا يتجزّأ من الدولة. لا يمكن أن تؤول الأمور لدينا ولدى الدولة إلى مآلين مختلفين. إذا كنا ذاهبين نحو دولة القانون، فالقضاء ذاهب بالاتجاه نفسه. لكن إن كان هناك قرار لأخذ البلد إلى اللادولة، فلن يكون للقضاء دور”.

 

القضاء لن يسقط قبل الدولة. كلام شدّد عليه المصدر، لافتاً إلى أن القضاء – ومحكمة التمييز تحديداً – أنشئ قبل إعلان دولة لبنان الكبير بهدف عدم عرقلة سير العدالة. أما الرهان اليوم فهو على أن تشكّل المطالبة باستقلالية السلطة القضائية تمهيداً لاسترداد الدولة هيبتها… كدولة قانون ومؤسسات.