كم جاءت نتائج إنتخابات الشمال البلدية والإختيارية، حافلة وعاصفة بحصيلة من الأخبار الطارئة، ومن الوزن الثقيل، نتائج عميقة في مضمونها ومغزاها، ستمتلىء بها أجواء الحياة السياسية في مقبل الأيام وستتمرجح بها وسط الأحداث السياسية التي ستتعاقب وتتوالى وتتأجج حتى موعد الإنتخابات النيابية المقبلة. ولئن كانت نتائج الإنتخابات في كل من القبيات وتنورين قد جاءت وسط توقعات الخسارة لثنائي التيار والقوات نظرا للأهمية الشعبية المتأصلة والشاملة والفاعلة التي يتمتع بها أخصامهما في المدينتين المذكورتين، الأمر الذي حصل فعلا، وزاد في تقليص حجم الآمال التي بنيت على التحالف الثنائي المذكور ووضعته في موقع متراجع عن التصنيفات الطموحة التي وضع كل من التيار والقيادة القواتية، تحضيراتهما المتوحدة في إطارها الطموح، ولئن كانت هذه المفاجأة الثنائية التي أهدتها كل من القبيات وتنورين (وعدد آخر من القرى الشمالية ذات الطابق المسيحي) إلى الزعامة المارونية المحلّية المتمكنة والمتمترسة في جذور أوضاعهما السياسية والإجتماعية، فإن المفاجأة الكبيرة وغير المتوقعة إطلاقا، كان منطلقها من مدينة طرابلس، عاصمة لبنان الثانية والمدينة المتأججة بحيوية شعبية حارّة ومتشعبة الأطراف والأنواع والتوجهات، وإن كانت قد تمثلت في السنوات الأخيرة باعتبارها امتدادا شعبيا واسعا متحمّسا لتيار الرئيس الحريري منذ ان تأصلت جذوره وامتداداته خلال أيام الرئيس الشهيد رفيق الحريري، فكانت طرابلس لؤلؤة السياسة العامة المنتمية إلى أفكاره وتوجهاته، ومن بعد تسلم إبنه الشيخ سعد زمام المسؤولية، سار خلالها على نفس الدرب وانطلق من نفس الآراء والأفكار والتوجهات، وكان طبيعيا ان تمرّ الأيام، وأن يستنفد التيار الحريري بعض شعبيته، وأن يداخله، ككل تنظيم سياسي تعرّض إلى أمثال المآسي التي تعرض إليها الرئيسان الشهيد رفيق والرئيس الشيخ سعد، فكان استشهاد الأول الضربة القاسية التي طاولت لبنان واللبنانيين، وإن تمثلت نتائجها بموجات من التوحد الوطني، أدى إلى ولادة تيار الرابع عشر من آذار وما أدخلته هذه الموجة الوطنية العارمة من مستجدات إيجابية عارمة امتدت على مستوى لبنان بكل جهاته وفئاته، كما تمثلت أيضا في اضطرار الشيخ سعد للإقامة الطويلة خارج لبنان، مبتعدا عن الحكم وسلطته، ومتعرضا لتهجماتٍ ومخاصماتٍ هوجاء كانت مدارا للمحاربة الحادة والهجمات المغرضة، دون أن ننسى في مطلق الأحوال عددا من الأخطاء التي ارتُكِبَتْ في هذا السياق الذي تُركَتْ فيه دفّة القيادة إلى عملية تسيير عن بعد، أفسحت في المجال أمام مزالق ومطبات كثيرة كانت لها جملة من النتائج السلبية، وكان لكل ذلك أثره الذي أدرك الرئيس سعد الحريري وجوده ومداه، وقد عمل ليل نهار بعد أن تحقق ولو جزئيا من وجود الخلل، لإصلاح ما يمكن إصلاحه، وتلافي عواقبه وسلبياته، وقد جاءت إنتخابات المجلس البلدي الجديد مشفوعة بتحركات زلزالية في الأرض البيروتية التي حفلت بأكثر من سبب ودافع لإبداء الرأي الصريح والذي وصل بعضه إلى مراتب الرفض والإحتجاج، ولكن الزلزال الحقيقي المشهود والملموس بقوته ونوعيته،قد حصل في طرابلس، عاصمة لبنان الثانية، حريرية الإتجاه والهوى السياسي والوطني والمسلّم بما لكل من الرئيسين الحريري «السابق والحالي» من أثر هام في التحكم بدفة قراراها وبوصلة توجهاتها، وكان للقرار المبدئي الحكيم، (وغير المدروس بابعاده وتشعباته كافة بما فيه الكفاية) والذي اتخذ بمبادرة من الرئيس تمام سلام هدفت في حينه، إلى توحيد الصف السنّي بعد عمليات الهزّ المصطنع، والإهتزاز الذاتي، التي سبق أن طاولت الأجواء السنية ففّرقت بعض صفوفها، خاصة في مدينة طرابلس، وكان تحالف القادة السنّة المتمثلين بالرئيسين الحريري والميقاتي والوزيرين كرامي والصفدي وعدد آخر من القادة الطرابلسيين، مدعاة ارتياح مبدئية في طرابلس وقبلها في بيروت وفي سائر المدن والقرى ذات الطابع السني، وجاء التحضير للإنتخابات البلدية والإختيارية هادئا في ظاهره ومتجاوزا وعازلا لبعض القيادات الطرابلسية الأخرى وفي طليعتها الوزير أشرف ريفي المستقيل من منصبه في وزارة العدل والمعتبر من قبل أوساط الرئيس الحريري متمرّدا على الصّف الذي رشحه لمواقع كثيرة ومن بينها إيصاله إلى منصب وزارة العدل.
وحصلت الإنتخابات في عاصمة الشمال فكانت ساعاتها الأولى، مشابهة لما سبق حصوله في بيروت من إحجام عن التصويت، وبقي ذلك واضحا ومؤشرا عليه في أغلب ساعات النهار، ولم تتحسن نسبة التصويت إلى درجة مقبولة إلاّ في أواخر دقائق العملية الإنتخابية وحصول ذلك الإقبال المفاجئ وغير المتوقع قبيل إقفال مراكز الانتخاب الطرابلسية، وكان الدور الأساسي في تعديل رقم النسبة المنتخبة عائدا إلى هذه الإندفاعة المتأخرة، التي حمّلت العملية الإنتخابية بمجملها إلى اللبنانيين عموما وإلى الطرابلسيين خصوصا، فجاءت مفاجأة من الوزن الثقيل، حيث قلبت كل التوقعات وكل الموازين، وأظهرت إلى العلن تيارات جديدة طبعت معالمها على ساحة عاصمة لبنان الثانية، وتمثلت خاصة بتلك الظاهرة والتي رعاها وواكبها الوزير أشرف ريفي، وكان حصاده لثمانية عشر مقعدا منها، ذا دلالات ومؤشرات، أشبعتها وسائل الإعلام تناولا وتحليلا وإظهارا للمفاجأة غير المتوقعة والتي وإن نتجت عن انتخابات بلدية ذات طابع عائلي وانمائي، إلاّ أنها كانت بمثابة قنبلة توزعت آثار انفجارها فيما بين القيادات والزعامات التي أمسكت بها وبقيادتها.
الرئيس الحريري كان دون شك في طليعة من فاجأهم هذا التفجير، ولكن وبقدر ما فوجيء، وأكثر مما فوجيء بالحدث الذي أطل على الناس في بداية ليل مظلم، كان زملاؤه في الرعاية الإنتخابية في طلائع موقع المفاجأة غير المتوقعة على الإطلاق، ولعلهم كزعماء وقادة طرابلسيين هم مسؤولون عنها وعن نتائجها المفاجئة أكثر من غيرهم، وبقدر ما تحمل بعضهم أجزاء هامة من مسؤولية القيادة وانتقاء عناصر اللائحة، بقدر ما تزداد مسؤوليتهم المباشرة عن النتيجة المتراجعة، وبقدر ما تكون الرسالة موجهة إليهم قبل غيرهم من شركاء تلك اللائحة المصدومة. وهم في هذا السياق يعتبرون في طليعة المتراجعين والخاسرين.
أذكر أنني في إحدى جلسات التشاور والتداول التي سبق أن كانت جزءا من علاقة سياسية كانت قائمة ما بين الرئيس الشهيد رفيق الحريري وبعض من أصدقائه ورفاقه في المسيرة، أنه كان يبادر فيسألهم عما هناك من أخبار ومداولات في أوساط الناس المختلفة، وكان يبادر ويطالب بأن يُحصَر إبلاغه بأي مستجد بالأخبار السلبية والإنتقادات التي يوجهها إليه وإلى نهجه السياسي أي من الناس. كان لديه شعور اكتفاء كامل من حجم المدائح التي كانت توجه إليه شخصيا أو بالواسطة، وكان يعتبرها حصيلة طبيعية من حصائل أي مسؤول في أي موقع سلطة، سواء كانت حقيقية صادقة أم مختلقة ومصطنعة، وكان يأخذ أقوال النقد والإعتراض التي تصل إليه بعين الإعتبار الشديد ويسعى إلى ملاحقة ومعالجة ما أمكنه منها. اليوم… لم يعد هناك من حاجة لدى أي مسؤول إلى أن يستعلم عن انتقادات الناس، هي قد باتت واضحة ومعلنة، فإما أنها أُسقطَتْ في صناديق الإقتراع، متضمنة لحصيلة مواقف الناخبين واعتراضاتهم وإما أن هؤلاء قد عبّروا عنها من خلال إحجامهم عن التصويت في أهمّ عملية تحفظ على الاوضاع، كل الأوضاع، بكامل أشكالها وألوانها.
الأمر بات يرتدي أثوابا من الأهمية القصوى التي تستدعي سرعة تحرك وسرعة استخلاص للدروس والعبر وسرعة معالجة، يهمنا جدا أن تكون القيادة السنية في الموقع المتماشي والمتلاحم مع مطالب الناس وآرائهم ومتابعتهم للأحداث وإننا على يقين بأن الشيخ سعد هو قبل الجميع، يرغب أن يكون في هذا الموقع، والجميع يدركون معه أن المسؤول ملزمٌ باتخاذ المواقف بما فيها تلك المتمادية وتلك الطارئة، وتلك المتماشية مع رغبات الناس وآرائهم وتلك المختلفة عنها بعد دراستها على ضوء المستجدات الحاصلة واتخاذ المواقف المناسبة بشأنها، وفي ظرف كالذي نحن فيه… نرجو له التوفيق في الإمساك بخيوط الأحداث بما فيها، نتائج الشرخ الحالي الذي كان نائما في طرابلس، واستفاق، مؤكدين على أنه كان وما يزال، الأقدر والأنسب لحمل راية القيادة السنية والوطنية.