تُبنى التوقعات المستقبلية عادةً، على قراءة خطية للأحداث الجارية وتطوّرها ضمن المسار ذاته، تزايداً وتصاعداً أو تناقصاً وهبوطاً. وتُترَك هوامش للمفاجآت والطوارئ التي قد تغيّر وجهة التطوّر والمسار وتحرفه عن الطريق الذي تصور الباحثون أنه سيتخذه في المستقبل القريب.
لكن مع وجود الهوامش المعقولة للانحراف، فإن درجة الانحراف هذه هي ما يبقى موضع تساؤل: هل تنقلب الأحداث رأساً على عقب أو ستتابع في الوجهة ذاتها مع تبدل طفيف في الزاوية. وغالباً ما تأتي المفاجآت من تراكم أحداث ظلت في منأى عن مراقبة الدارسين إلى أن انفجرت وغيرت كامل الصورة. الأزمة المالية في الولايات المتحدة والغرب عام 2008، أخذت الحكومات والخبراء على حين غرة، لكن عندما عاد هؤلاء إلى البيانات الموجودة في القطاع الذي اندلعت الأزمة فيه، الرهونات العقارية، رأوا أن المؤشرات كانت تملأ الجدران لكن أحداً لم يقرأها أو بالأحرى، لم يفسرها التفسير المناسب. الأدهى أن العلاجات التي اعتمدت لتلك الأزمة شكلت مكافأة للمتسببين بها على شكل تعويضات ببلايين الدولارات للمصارف والشركات الكبرى لمنع انهيارها، فيما دفع المدينون الثمن الباهظ. بعض الاقتصاديين، مثل بول كروغمان، يحذرون من أن دورة الأزمة المقبلة قد بدأت وأن الممارسات السابقة التي عمّت أسواق المشتقات المصرفية وساهمت في تضخيم المكانة الائتمانية للشركات قد عادت إلى مسارها السابق والكارثي.
أمر مشابه حصل مع الثورات العربية. من نَظَر أواخر سنة 2010 إلى أحوال العالم العربي كان ليظن أن المناخات التي أفضت إلى «النظام العربي» الذي ساد المنطقة منذ بداية التسعينات مع خروج العراق من الخريطة الإقليمية بعد غزو صدام حسين الكويت وتكرس بالغزو الأميركي العراق عام 2003، إضافة إلى استمرار الجمود في العملية التفاوضية الفلسطينية– الإسرائيلية ومحاولات المصالحة العربية مع نظام بشار الأسد وغيره، ستستمر وتتعاظم. لم تؤخذ على محمل الجِد معطيات الاحتقان الشعبي العام وفشل مشاريع التنمية واستياء الأجيال الشابة من تجذّر الاستبداد وبالتالي العزلة عن المشاركة في حياة العصر.
فاجأت الثورات الجميع، وكانت مشاهد الميادين والتظاهرات المليونية واستقالات حكام اعتبروا ذات يوم ثوابت في بلادهم، كافية لتصوّر بداية حقبة جديدة في التاريخ العربي يلحق فيها ما فاته على صعد بناء دوله ومؤسساتها الدستورية والمدنية وإعادة الاعتبار إلى المواطن ونهاية سلطات «الدول العميقة» العصية على المساءلة والرقابة.
بيد أن المتفائلين هؤلاء (ومن بينهم كاتب هذه السطور) تلقوا صدمة قاسية في الأعوام القليلة التي أعقبت ثورات 2011. وواحدة بعد أخرى، راحت الاستعصاءات تظهر على طريق التغيير السلمي في العالم العربي لتتحول المنطقة إلى مستنقع من الدماء والدموع والدمار، لم يتردد أي صاحب نفوذ في العالم في تلويث يديه فيه. وهذه كانت من سلسلة التحولات غير المتوقعة على المسار العريض الذي ساد الاعتقاد بانطلاقه مع الثورات.
هل ننتظر في 2018 تبدلات كبيرة على الطريق الذي تدفع روسيا فيه الحل في سورية، على سبيل المثال؟ هل تتغير التحالفات الإقليمية التي شهد العام الآفل بداياتها؟ هل سيتخذ دونالد ترامب قرارا أرعناً آخرَ قد يُفجّر حرباً نووية في آسيا؟ هل سيخطئ أي من طرفي رقصة التانغو الإيرانية– الإسرائيلية ويخطو وراء الخطوط الحمر المرسومة، بما يزعزع لبنان أو غزة أو ربما ما هو أكبر؟