المفترض أنه معروفٌ أن الروس، ومعهم الإيرانيون ونظام بشار الأسد أيضاً، عندما يقولون إنه لا حلّ عسكرياً للأزمة السورية فإنهم يقصدون «المعارضة» ومن يساندها ويقف معها، وأنَّ الأميركيين ومن معهم عندما يقولون هذا الكلام نفسه فإنهم يقصدون روسيا وإيران، وهكذا فإنه لا جديد عندما يعلن لافروف وظريف ومعهما أوغلو في أعقاب اجتماعهم الثلاثي الأخير أنهم توافقوا على استمرار العملية السلمية، وعندما يقولون إن اتفاق هذه الدول الثلاث في هذا الاجتماع المشار إليه يعد «بداية» الحل المنشود لهذه الأزمة.
ولعل ما يؤكد أن التباعد لا يزال قائماً بين الأميركيين وحلفائهم والروس وحلفائهم أنه نُسب إلى مصدر أوروبي أن الدول الغربية لن تسهم في إعادة إعمار البنية التحتية والتنمية طويلة الأجل في سوريا إلا إذا رأت تغييراً حقيقياً في هذا النظام وتشكيلاً لحكومة تعددية، مما يعني أنه قد يكون هناك بعض التحول في الموقف الأميركي تحديداً والموقف الغربي بصورة عامة، لكنه تحوُّل، كما هو واضح، لا يعني أن مواقف المتخاصمين اقتربت من أن تصبح متطابقة، لا بل إنه يعني أن هذه المواقف قد ازدادت تباعداً، والدليل هو ما بات يجري على الأرض عسكرياً حيث التحشيد الأميركي المتواصل الذي رافقه ويرافقه تحشيد فرنسي واضح ومعلَن وعلى «عينك يا تاجر» كما يقال.
لقد حذَّر هذا الدبلوماسي، الذي لم يُكشف النقاب لا عن اسمه ولا عن مكانته ولا عن أي دولة يمثلها ويتحدث باسمها، من أن الروس قد قاموا بالكثير من الألاعيب أخيراً، وقال: «لذلك لا أعتبر أننا وصلنا إلى نهاية لهذه الألاعيب… علينا أن ننتظر قليلاً لنرى ما إذا كان غبار المعارك سينقشع وما إذا كانت هناك عملية سياسية ستظهر مجدداً في جنيف»!
وحسب «الشرق الأوسط» فقد أشارت وكالة الصحافة الفرنسية يوم الجمعة الماضي، إلى أن دولاً أوروبية، على رأسها فرنسا، تخطط لجعل محاكمة مجرمي الحرب في سوريا شرطاً أساسياً للسلام والمصالحة في هذا البلد، وذلك رغم العقبات الكثيرة التي تعيق تحقيق مثل هذا الأمر، وهنا فإن ما يؤكد أن هذا التوجه جدي وأن الولايات المتحدة داعم رئيسي له، أنَّ اجتماعاً قد عُقد يوم الأربعاء الماضي في بروكسل شاركت فيه بريطانيا والسويد وهولندا والدنمارك وبلجيكا وخُصِّصَ لمناقشة هذه المسألة ومنع إفلات نظام بشار الأسد ومن شاركه من العقاب على ارتكاب كل هذه الجرائم.
وهذا يعني أن أي حلول سياسية جدية لهذه الأزمة الطاحنة، التي لا تزال تزداد تعقيداً وتداخلاً يوماً تلو يوم، مستبعدة جداً في المدى المنظور وبخاصة أن الولايات المتحدة، خلافاً لما كان قاله الرئيس دونالد ترمب، قد أعلنت أنها لن تنسحب عسكرياً من سوريا وأن الروس بادروا أخيراً إلى اتهام أميركا بأنها تريد تقسيم هذا البلد، وكل هذا وقد بات واضحاً لكل معنيٍّ بهذا الأمر أن الروس قد بدأوا عمليات التقسيم هذه «باكراً» عندما بدأوا عمليات التفريغ الديموغرافي والتهجير المذهبي والطائفي لإنجاز مشروع «سوريا المفيدة» و«الانسجام المجتمعي» اللذين كان بشار الأسد قد تحدث عنهما ليس مرة واحدة وإنما وبكل جدية مرات كثيرة.
في كل الأحوال تجب الإشارة هنا إلى مسألة في غاية الخطورة والأهمية وهي أنَّ أي حلٍّ وفقاً لـ«آستانة» و«جنيف1» وغيرهما لا يكون أساسه المرحلة الانتقالية وإقصاء بشار الأسد عن موقع الرئاسة سيعزز حقيقة أن المقصود بهذا الذي جرى والذي يجري سابقاً ولاحقاً وحتى الآن هو العرب «السُّنة»، ولعل ما يؤكد هذه الحقيقة هو أن عمليات التهجير التي تمت على مدى الأعوام السبعة الماضية التي لا تزال مستمرة ومتواصلة لم تستهدف إلاّ هؤلاء، مما يؤكد أن المقصود ومنذ البدايات هو التخلص من أبناء هذه الطائفة ليبقى «نظام الأسد إلى الأبد» نظاماً مذهبياً وطائفياً ويتحول الشعب السوري بغالبيته إلى مجموعات طائفية سواء إنْ هي أصبحت أقليات متآخية أو متناحرة ومتحاربة.
جاء في كتاب «الصراع على السلطة في سوريا.. الطائفية والإقليمية والعشائرية في السياسة 1961 – 1995»، لصاحبه الدكتور نيقولاوس فاندام، أنَّ التقسيم الفرعي للسكان في هذا البلد نسبةً إلى اللغة يكشف أن 82.5% يتحدثون العربية، وأن 68.7% عربٌ مسلمون سُنيون، وأن أكبر الأقليات الدينية هم العلويون (11.5%)، وأن الدروز 3.0%، والإسماعيليين 1.5%، والمسيحيين (الروم – الأرثوذكس) 4.7%. وجاء في هذا الكتاب أيضاً أن الأقليات العرقية الرئيسية هم الأكراد (8.5%)، والأرمن (4.0%)، والتركمان (1.0%)، وذلك في حين أن معظم الأكراد والتركمان والشراكسة مسلمون سُنيون، وهم ينتمون إلى غالبية السكان، أما الأرمن فهم يمثلون أقلية عرقية ودينية… وكل هذا في حين أن العلويين والدروز والإسماعيليين والمسيحيين (الروم الأرثوذكس) يتحدثون جميعهم ومن دون أي استثناء (تقريباً) اللغة العربية.
إنَّ ذكر هذه الحقائق كلها هو ليس إثارة للطائفية والمذهبية، التي من المفترض أنها مرفوضة رفضاً مطلقاً، وإنما لتأكيد أنَّ السنة العرب هم المستهدفون الآن، وأن المقصود بعمليات التفريغ والتهجير، المستمرة على مدى الأعوام السبعة الماضية، هو تحويلهم من أكثرية إلى أقلية مثلهم مثل الطوائف الأخرى، والواضح حتى الآن أن هذا الهدف قد تحقق الجزء الأكبر منه، وأن بقاء نظام بشار الأسد وفقاً لما يريده ويسعى إليه الإيرانيون والروس وتصْمُت تجاهه تركيا، سيؤدي إلى تغيير تركيبة هذا البلد المذهبية ويحوّلها من أغلبية سُنية إلى أغلبية تحالف مذهبي تكون القيادة فيه للطائفة العلوية.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن دمشق قد شهدت في عام 1940 ولادة حزب البعث على يدي المسيحي الأرثوذكسي ميشيل عفلق والمسلم السني (العربي) صلاح الدين البيطار ومعهما جلال السيد من دير الزور وبعض اللوائيين (نسبة إلى لواء الإسكندرون) وبعض الأردنيين واللبنانيين، لكن هذا الحزب ما لبث، بعد انقلاب أو «ثورة» مارس (آذار) عام 1963، أن تحوَّل إلى حزب أكثرية طائفية (علويون وإسماعيليون ودروز)، وتراجع الوجود السني لاحقاً حتى حدود التلاشي وبخاصة بعد انقلاب الثالث والعشرين من فبراير (شباط) عام 1966.
لقد حاول «البعث» منذ إنشائه استبدال «الهويات» الطائفية والمذهبية (الانعزالية) بالهوية القومية – العربية، الجامعة لكنه إنْ هو قد حقق بعض الإنجاز والنجاح في البدايات فإنه بعد الوصول إلى الحكم بانقلاب عسكري قادته مجموعة سرية، تشكلت في القاهرة، من خمسة من الضباط السوريين ثلاثة منهم علويون هم: محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد، واثنان من الطائفة الإسماعيلية هم عبد الكريم الجندي وأحمد المير، بدأ يفقد وبالتدريج أي لون سني له إلى أنْ وقعت حركة الثالث والعشرين فبراير 1966، الآنفة الذكر، حيث وصلت الأمور إلى حدِّ أنّه لم يستطع إنشاء فرع فعلي له في دمشق التي كان قد بدأ فيها وبصبغة قومية وعروبية غالبة.
لقد ابتعد السنة السوريون عن «البعث» ليس في دمشق وحدها وإنما في كل المدن السورية الكبيرة والصغيرة، اللهم باستثناء درعا ودير الزور، فكانت تلك الانتفاضات بطابع إسلامي التي شهدتها حماة في عام 1964 وبعد ذلك، وشهدتها مدن أخرى بطرق أخرى مختلفة، وهكذا إلى أن جاء انقلاب حافظ الأسد في عام 1970، حيث تحول هذا الحزب وهذا النظام إلى حزب طائفي وليس حزب الطائفة، في حين تحول النظام إلى نظام العائلة الأسدية، وهذا كله قد أدى أولاً إلى انتفاضة عام 1980 ثم إلى انتفاضة عام 2007 التي كانت ولا تزال بصورة عامة انتفاضة سُنية.
إن المقصود بهذا الاستعراض كله هو أنَّ أي حلٍّ يُبْقي على نظام الأسد وبأي شكل من الأشكال قد يؤدي إلى انتكاسة مؤقتة بالنسبة إلى هذه الثورة وبالنسبة إلى هذه المعارضة، لكن الجمر سيبقى «يعسعس» تحت الرماد، وسيبقى السنة العرب الذين لا يمكن إنهاء وجودهم في هذا البلد سيلجأون إلى انتفاضات متلاحقة، انتفاضة بعد انتفاضة، إلى حين إطاحة هذا النظام الطائفي واستبدال نظام يكون للسوريين كلهم وللطوائف والمذاهب السورية بأسرها به، وعلى من يشك في هذه الحقيقة أن يراجع التاريخ إنْ في هذا البلد العربي (سوريا) وإنْ في بلدان عربية وغير عربية أخرى كثيرة.