يشهد لبنان منذ أكثر من عشرة أيام حراكاً شعبياً، غير مسبوق منذ نشأة الكيان عام 1920، في انتفاضة شعبية عفوية عابرة للطوائف والمناطق والطبقات الاجتماعية والانتماءات السياسية والحزبية. انتفاضة امتدت على مساحته، شارك فيها أكثر من مليون ونصف مليون متظاهر، رفعوا شعارات اعتاد اللبنانيون تجنبها واعتبارها من المحرمات، وتخطوا عوائق وهمية ومفتعلة أغلبها طائفي ومذهبي، أبعدت اللبنانيين بعضهم عن بعضهم، وأوهنت حسهم الوطني.
انتفض الناس العاديون من نساء ورجال وشباب محبط، على تراكمات من الفساد والتسويات الكاذبة وأوهام فاقدة الصلاحية عمرها عقود، ساعين إلى الإمساك بزمام التغيير والمصير نحو مستقبل أفضل، يتجاوز إخفاقات جرَّت مآسي في ماضٍ قريب وبعيد، وإلى استعادة الوطن كمساحة عيش مستقر لجميع أبنائه.
لا شك في أن هذا الحراك يشبه ثورات الربيع العربي، كما يشبه ثورة الأرز التي اندلعت في لبنان عام 2005 ومهَّدت لهذا الربيع، إنما يمتاز أيضاً بخصوصية وفرادة، لما أحدثه من تغيير بنيوي في جسم المجتمع اللبناني، مشكلاً مرحلة مفصلية ومؤسسة في مسار انتقال اللبنانيين من مجموعات طائفية الانتماء تتشارك العيش في مساحة جغرافية، إلى مواطنين تخطوا بما يشبه الأعجوبة طوائفهم وزعاماتهم وانتماءاتهم الفرعية كافة، لينصهروا معاً تحت مظلة الانتماء إلى الوطن.
سيكتب الكثير في تفنيد أسباب انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) اللبنانية ونتائجها المحتملة، إنما ما يستوقفنا اليوم هو موقف الدول الغربية المتجاهل لها، وهي حاملة لواء قيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، أقله مقارنة مع موقفها من ثورة الأرز عام 2005. فحتى كتابة هذه السطور، يلف صمت مريب هذه الدول إزاء الانتفاضة، وكأن تظاهر أكثر من مليون مواطن في وطن لا يتجاوز عدد سكانه الملايين الأربعة لا يستأهل التوقف عنده.
للموضوعية، نستطيع رصد بيانات خجولة بعبارات مواربة وعناوين عامة، نوَّهت بورقة الإصلاحات الاقتصادية التي أعلنها رئيس الحكومة سعد الحريري، متجاهلة في الوقت عينه دلالات خروج هذا العدد من المحتجين وأبعاده، تخطت مطالبهم الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، لتصل إلى المطالبة باستعادة وطنهم ممن خطفه سياسياً وسيادياً وإدارياً.
عام 2005، رمت إدارة الرئيس جورج بوش الابن بثقلها إلى جانب ثورة الأرز التي اندلعت شرارتها إثر زلزال اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية آنذاك رفيق الحريري. وكذلك فعل نظيره الفرنسي جاك شيراك، الذي حتى قبل ثورة الأرز وفَّر حاضنة خارجية سمحت بصدور القرار الأممي رقم 1559، الذي نص على خروج جميع القوات الأجنبية من لبنان، وحل جميع الميليشيات. وكذلك فعل كثير من العواصم الأوروبية. فلماذا هذا الصمت اليوم، وما يجري قد يكون في وجدان اللبنانيين أكثر أهمية من ثورة الأرز؟!
فثورة 14 مارس (آذار) 2005، جاءت من جهة كردة فعل شعبية على اغتيال الرئيس الحريري، وكرفض للوصاية السورية التي أرهقت كاهل الوطن طوال ثلاثين عاماً، ومن جهة أخرى رداً صارخاً على مظاهرة نظمها «حزب الله» في ساحة رياض الصلح يوم 8 مارس (آذار) 2005، تحت شعار «شكراً سوريا»، التي وجهت إليها أصابع الاتهام بارتكاب جريمة الاغتيال. كان التجاذب بين اللبنانيين آنذاك واضحاً، وضعهم وجهاً لوجه في معسكرين متحاربين.
أما انتفاضة 17 أكتوبر، فهي جمعت أكثر من مليون ونصف مليون لبناني من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه ومن غربه إلى شرقه، افترشوا خلال 12 يوماً الساحات، جامعين في حراكهم البعد الاجتماعي – الاقتصادي إلى البعد السياسي – السيادي، ضمن قاسم مشترك واحد، هو رفض الطائفية بأبعادها السياسية والحزبية والاجتماعية. ولا نبالغ إذ نقول إنه إذا كان عام 1920 قد شهد قيام الدولة اللبنانية، فعام 2019 قد شهد قيام المواطن اللبناني لتعزيز لهذه الدولة، عبر إرادة شعبية جامعة عابرة للطوائف والمناطق والطبقات الاجتماعية كافة.
هذه الانتفاضة فاجأت كثيرين، كما الطبقة السياسية، وكشفت أكثر من حقيقة، أولها أن «حزب الله» خطف فعلاً الطائفة الشيعية وانتفاضة صور والنبطية وكفرمان وبعلبك، على واقع من الهيمنة عمره ثلاثون سنة، أربكت الثنائي الشيعي من تفلت قواعدهم. وثانيها أن سنة لبنان متمسكون بلبنانيتهم، وبشعار «لبنان أولاً»، وأن اتهامهم بالاستكانة والرضوخ غير صحيح، كما اتهامهم بالتطرف والتشدد، وطرابلس عروس الثورة خير مثال. فالمكوِّن اللبناني المسلم بشقيه السني والشيعي شكَّل عماد هذه الانتفاضة إلى جانب المسيحيين، وجميعهم يتحركون كلبنانيين، مدركين أن مصيرهم رهن وحدتهم. وثالثها أهمية العامل السيادي في هذا الحراك، وأن الأزمة في لبنان هي أزمة بنيوية وسياسية وسيادية، سببها هيمنة «حزب الله» وحلفائه من كل الطوائف على القرار السياسي والدبلوماسي والأمني. فالقهر لا يولد فقط من الفقر والجوع، وإنما أيضاً من الاستضعاف والاستعلاء. و«حزب الله» استضعف شركاءه في الوطن، واستعلى عليهم في سياسة «الأمر لي».
وأخيراً، أظهرت الانتفاضة مدى انعدام الثقة بين المواطن والسلطة، وأن اللبنانيين، لا سيما جمهور «14 آذار»، تعلموا من الماضي، حين نزلوا عام 2005 إلى الشارع مطالبين بالحرية والسيادة والاستقلال، على أمل أن تتحمل القيادة السياسية المسؤولية، ففشلت، ومني المواطن بخيبات متلاحقة.
لكن السؤال هو: لماذا صمتت الدول الغربية؟
لا بد من التسليم بأن من لا يساعد نفسه لن يساعده الآخرون! فعندما قرر قادة ثورة الأرز في الانتخابات التي تلتها التحالف مع «حزب الله»، ورفض بعضهم إقالة الرئيس إميل لحود، خذلوا من وقف إلى جانبهم من الدول الغربية، وخذلوهم ثانية عندما وقَّعوا اتفاق الدوحة، وثالثة عندما دخلوا في تسوية جاءت بحليف «حزب الله» المسيحي رئيساً للجمهورية.
ولا بد من التسليم أيضاً بانسحاب الإدارة الأميركية الحالية من مشكلات المنطقة ونزاعاتها، ومستوى الاهتمام المتدني الذي تعطيه للديمقراطية ونشر قيمها في العالم. وبحقيقة أخرى هي تحول العلاقات الدولية من علاقات بين مؤسسات إلى علاقات بين أشخاص. ومن هنا نفهم تعويم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورقة الرئيس الحريري الإصلاحية، بحكم الصداقة بينهما.
ومع ذلك، يجب ألا تغيب عن المتابع أسباب أخرى أكثر أهمية، يمكن إيجازها في ثلاثة:
أولاً، عدم الرغبة الدولية في إعطاء انطباع خاطئ دون أدنى شك، بأنها وراء الحراك الشعبي، خشية إجهاضه باعتباره نتيجة لدعم سفارات وقوى أجنبية، كما قالها صراحة حسن نصر الله.
ثانياً، خشية انزلاق لبنان إلى قتال داخلي، يضاف إلى صراعات المنطقة التي ضاق بها العالم ذرعاً.
ثالثاً، قد تكون الدول الغربية، لا سيما الولايات المتحدة وفرنسا، تتجنب حالياً إغضاب الجانب الإيراني. فقد سبق لواشنطن أن تخلت في الحرب السورية عن حلفاء بسبب التخوف من إجهاض مفاوضات الاتفاق النووي الجارية آنذاك، أو أن تتملص إيران من تنفيذه بعد توقيعه.
الخيبات العربية من الغرب الديمقراطي أصبحت مألوفة، لا سيما من سياساته قصيرة النظر، والتي تعمل على إخفاء المشكلات تحت السجادة بدلاً من حلها جذرياً. لكن التجارب على مدى العقود الماضية غرباً وشرقاً، أثبتت أن ما يخفى تحت السجادة يتآكل ويتعفن ويهترئ، وتفوح رائحته النتنة، ولا يلبث أن ينفجر، والحروب والنزاعات الدائرة في المنطقة في أسبابها وتداعياتها ليست استثناء لهذه القاعدة.