Site icon IMLebanon

حادثة السويداء وقانون القومية و «العقدة» الدرزية

 

يراود أبناء طائفة الموحدين الدروز في المنطقة شعور بعدم الإطمئنان لمستقبلهم تبرّره الوقائع التي تدفع بهم عند كل استحقاق إقليمي إلى واجهة المشهد. وقد تحمل جملة التحولات الآخذة في التبلور على الاعتقاد أن خياراتهم هذه المرة سيكون طابعها مصيرياً، ولا يساور المرء أي شك في أنها ستحدّد شكل وجودهم على الخارطة التي ترسمها جملة التواطؤات بين الدول الكبرى مع التسليم بأن وحدة موقفهم، إن تحققت، سيكون لها الأثر الأبرز في تحديد شكل هذا الوجود.

 

 

مصيبة الدروز الأولى أنهم خسروا الرهان على وجود دول حقيقية وأنظمة سلّموا لحضورهم فيها باعتبارها الخيار النهائي لطموحهم السياسي، فكل الكيانات التي عاشوا فيها عبّرت مؤسساتها عن ضعف في القدرة على الحماية وتأمين المساواة الكاملة، وعكست تركيبتها توازناً للعصبيات ظل يتغيّر مع كل تغيير في التوازن الإقليمي أو الدولي. وعلى رغم أن قادتهم ساهموا، لا بل أسّسوا، لتغييرات جوهرية في مسار تلك الدول، من فخر الدين الذي أكد أن لبنان قادر أن يتحول من جبل إلى دولة، إلى شكيب أرسلان الذي حل إشكالية العروبة والإسلام، إلى سلطان الأطرش الذي هزم الانتداب، إلى كمال جنبلاط الذي أرسى قواعد التغيير والديموقراطية والعروبة…، على رغم كل ذلك لم يبحثوا عن استحواذ أو سيطرة أو انسلاخ بل صبّت كل جهودهم لمصلحة الدولة والمواطنة. وقد بقيت قضية المساواة بالنسبة إليهم واحدة من الأمور التي استوجبت السعي الدائم وراءها.

 

في فلسطين المحتلة نَقَلَهم قانون القومية الذي أقرّه الكنيست مؤخراً إلى مصاف المرتبة الثانية في المجتمع وقضى على آمالهم في المواطنة والحقوق المتساوية. فهم ظلوا يبحثون عن تسوية بين كلفة بقائهم في ظل الاحتلال وسعيهم للعيش بكرامة في ظل أمر واقع لم يختاروه. وفي الحقيقة ارتبط خيارهم بالبقاء بعصيان الأمر الواقع الذي أراد محو هويتهم وتشويه تاريخهم وارتباطهم القومي، ولم يكونوا يجهلون قضية استخدام العدو وجودهم من أجل تلوين صورة الاحتلال وادعائه بتعددية وديموقراطية فريدة من نوعها في الشرق. لكنهم نجحوا في البقاء والثبات. وقد راكم تمسّكهم بالهوية من جهة وتضافر جهدهم السياسي والثقافي مع العرب في الداخل من جهة ثانية ليصل إلى حد تشكيل حالة الضغط السياسي على الاحتلال ويدفعه إلى نقل فلسفة نظامه التي ادعاها من الديموقراطية إلى العنصرية اليهودية. فقضية المساواة والحقوق المشروعة تعود لتحيي هواجس هذه الشريحة ولتطرح عليها تحدياً يتعلّق بالوجود في ظل الاحتلال والقوانين العنصرية. وقد أيقن مَن تصدى منهم لتيار رفض الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي أن الذين دعوا لها إنما كانوا على حق لأن خدمتهم كانت لتصب في حساب النظام الصهيوني الذي مارس عنصريته طيلة الأعوام السابقة قبل أن يشرّعها مؤخراً بقانون.

 

وفي سورية عبر الدروز مرحلة الحرب السورية بالحد الأدنى من التشظي على رغم التهجين الذي مارسه عليهم نظام الأسد بتخويفهم وزرع الفتن مع محيطهم. والحقيقة أن النظام أراد القتال بهم منذ اللحظة الأولى وهو يشدّهم إلى هذا القتال اليوم من دون حساب تبعاً لوضعهم الدقيق في كل المنطقة. فالدروز كانوا على الدوام عامل استقرار يحظى بوضعية خاصة طمحت إسرائيل لتحويلها إلى شريط حامٍ لها لكن هم أرادوها ركيزة للانتماء الوطني والقومي. والأهم أن الخصوصية تلك، على رغم كل ما طاولها، لم تصل إلى حد التفكير من خارج الإطار القومي أو الكياني. اليوم يكمن التحدي في حماية دماء الشباب الدروز من مغامرات بشار الأسد وهذا حق لا يتغلّب عليه جموح النظام لتجنيدهم في حرب داخلية يمكن تلافيها بالشروع بالحل السياسي. مسألة التجنيد الإجباري في جيش الأسد أصبحت ذات تأثير إقليمي لأنها تشكل دافعاً رئيسياً لمغادرة سورية واللجوء إلى الخارج ولم تعد مسألة حس وطني أو التزام بالدفاع عن الوطن. فحادثة السويداء وإن بدت منفصلة عن سياق طويل من محاولات الإيقاع بين السويداء ومحيطها، إلا أنها بالتأكيد ليست منفصلة عن خطة وضع الدروز في الحساب السياسي والعسكري للنظام. لكن كيف يواجه دروز سورية تطويع النظام لهم في الوقت الذي ينظّف فيه ترسبات المرحلة السابقة منطلقاً من محاسبة كل مَن خالفه في الرأي أو الفعل. كل ذلك لا شك يضع الروس في حالة اختبار، فهم المسؤولون عن تقوية الأسد، وبالتوازي مسؤولون عن أفعاله!

 

طبعاً المطروح على الدروز اليوم التأقلم مع المعطيات الجديدة التي طرأت بتسليم ملف سورية لروسيا، مع كل ما يرتبه ذلك من مفاعيل تُعيد الأسد إلى دوره الذي فاقمه عام 2004 تجاه لبنان. حينذاك وقع الاختيار على رفيق الحريري حين جرت المفاضلة بينه وبين وليد جنبلاط وتم افتتاح حقبة ذكّرت الدروز باغتيال زعيمهم كمال جنبلاط في 1977. أما اليوم فهو يتطلّع إلى لبنان شأنه في ذلك شأن العسكري الذي يعود ليعاقب خصومه بعد أن تكون جماعته أعدّت له ساحة الاحتفال! مؤخراً يجري الحديث عن «العقدة الدرزية» كواحدة من العوائق التي تحول دون تشكيل الحكومة اللبنانية، والحقيقة أن تكبير هذا الأمر من شأنه وضع قيادة دروز لبنان في وضع العائق أمام انتظام الحياة السياسية. لكن في الواقع فإن هذه العقدة تعبر خير تعبير عن هامش الحقوق الواجب نيلها في النظام اللبناني وواقع الغبن الذي يحدق بالدروز عند كل استحقاق. وفي بلد يعتمد التمييز الطائفي من بداياته، بقيت مسألة المساواة حاضرة في الذاكرة السياسية لدروز لبنان الذين اصطفوا خلف كمال جنبلاط لإلغاء الطائفية من الحياة السياسية. وهم يكابدون لأجل البقاء بعد استهدافهم بقانون أعوج للانتخابات والتعاطي معهم وفقاً للقياس العددي في كل الاستحقاقات. والحقيقة أن قانون النسبية عادةً ما يحمي حقوق الأقليات لكن ذلك يكون في نظام انتهى من تحدياته الوجودية وانتقل إلى الطور الديموقراطي الحقيقي. المُسلّم به عند كل هذه التحديات أن العقل السياسي لطائفة الموحدين الدروز، والذي راكمه قادتهم التاريخيون، إنما يضمن الهوية السياسية الحاسمة لهذه الطائفة في السياقين الوطني والقومي، وبالتالي فإن كل تلك التحديات مآلها أن تذهب، وهُم باقون.