تعددت الأسباب وطرق الإقفال سالكة
في تموز 2013، في ذاك الزمن الحلو، شهدت مدينة جونية حرباً بين أرباب «الحلو»، بين حلويات الدويهي وقصر الحلو، اشتدّت المنافسة حينها ووصلت حد المعارك الإعلانية بسلاح حملات ذكية كان شعب لبنان أول المهللين لها. حينها تبختر «الحلو» ومحبوه وتشاوفت البقلاوة وتغاوت القشطة وحتى الـ»إيكلير» دخلت المنافسة بقلبها الطيب وقامتها الرشيقة. زمن انقضى وتكاد تنقضي معه حلويات أيام العز، صواني البقلاوة والكنافة وقوالب الـ»تارت» والـ»غاتو» وصدور النمّورة والصفوف قعدت على الرفّ. واقع قطاع الحلو مرّ…
حين اتصلنا بأحد محلات الحلويات المعروفة لنسأل عن واقع قطاع الباتيسري ومحلات الحلو في لبنان كان الجواب «أنتم تفتحون الجراح، اتركونا نبكي بصمت». هكذا صار واقع الحال، قطاع يبكي ويئنّ وناس على مواقع التواصل يغرزون السكين في الجرح أكثر. «كيلو البقلاوة بمليون وخمس مئة ألف ليرة» صورة دارت على كل المواقع وحصدت ما لا يحصى من تعليقات ساخرة ومتشفية لم يدرك أصحابها أن الحسابات الدقيقة للكلفة يجب أن ترفع السعر أكثر من ذلك بكثير. أزمة طحين وزيت وسكر مستجدة تضاف إلى أزمة المازوت والبنزين والغاز وسعر الصرف لتشكل ضربة شبه قاضية لقطاع يعتبر من الكماليات وهو «التحلاية» وليس الوجبة الأساسية على مائدة الوطن والمواطن.
أسماء كبيرة غابت عن ساحة الحلويات في لبنان أو أقفلت فروعها في المناطق أبرزها «لاسيغال» الذي أقفل أبوابه منذ أشهر وقد تكون الأسباب وراء غياب هذه الأسماء المعروفة داخلية وفي آب أعلم قصر الحلو زبائنه» بإقفال كافة فروعه حتى إشعار آخر بسبب أزمة المحروقات. وهناك عدد لا بأس به من الباتيسري على طريق الإقفال إن لم يكن قد أقفل بعد إذا استمرت الأمور على ما هي عليه اليوم.
الحلويات ليست من الأساسيات
السيد مكرم ربيز صاحب باتيسري Pâte à Choux واحدة من الباتيسري الكبرى في لبنان التي لا تزال بفروعها الثلاثة قادرة على الاستمرار يؤكد لـ»نداء الوطن» أن القطاع انقلب رأساً على عقب وهو يعيش اليوم معاناة. فالربح تراجع والعمل اليوم هو للحفاظ على الاسم والاستمرارية في انتظار ما سيكون. بدأت أحوال القطاع تسوء مع تراجع القدرة الشرائية للمواطن التي جعلته غير مستعد ولا قادر على شراء أي منتج غير أساسي. «في ما مضى يقول ربيز كان شغل الباتيسري ناراً وكان أي شخص في لبنان قادراً على شراء الحلويات و»الغاتو» والشوكولا لا بل كان هناك بذخ في الشراء: أعراس وحفلات ومآدب ومن كان يحتاج إلى قالب لعشرة أشخاص كان يشتري قالباً يكفي أربعين… كل هذا تغير اليوم في لبنان الغارق في الفقر. الناس بدّلوا في أسلوب استهلاكهم صاروا يشترون القوالب الصغيرة أو القطع على عدد من سيتناولها وبالتالي تضاءل حجم البيع بعد أن تضاءلت القدرة الشرائية لا سيما عند الطبقات المتوسطة وما دون».
الناظر من بعيد تهاله أسعار الحلويات العربية والأجنبية المتربعة على الرفوف كأنها قطع مجوهرات، لكن أكثر من صاحب باتيسري يؤكد أنهم يبيعون منتجاتهم اليوم بثلثي سعرها وقطعة «الغاتو» مثلاً التي كانت تباع ب4$ صارت اليوم ب2,5 دولار ويؤكدون أنهم يسعّرون على سعر 12000 ليرة للدولار وليس على سعره الحقيقي في السوق السوداء، لم يضربوا الأسعار باثنين حتى لا يخسروا زبائنهم وتصير الحلويات حلماً مستحيلاً وفي حساب بسيط يمكن القول إنه كلما تم رفع الأسعار 10% تلاها خسارة للزبائن بنسبة 30%. من هنا فإن هامش الربح تضاءل والعمل اليوم للحفاظ على الاسم والزبائن والموظفين. مع ثبات سعر الصرف لفترة على 21000 تحسنت الأوضاع قليلاً وارتاح الناس بعد ان ازدادت التقديمات الاجتماعية وارتفعت الرواتب لتأتي ضربة أوكرانيا وتعيد الأمور إلى نقطة الصفر من جديد.
صعوبات بالجملة
رغم انتمائها إلى نقابة واحدة وتشاركها في المعاناة ذاتها إلا أن محلات الحلو والباتيسري تختلف بدرجة معاناتها عن المطاعم والمقاهي. هؤلاء يبيعون «الجو» للناس والجلسة الحلوة والأراكيل ما يساهم في جذب الزبائن أما الباتيسري فهي تبيع منتجاً ثانوياً يمكن الاستغناء عنه أو الحدّ منه. إضافة إلى كون 85 إلى 90% من المواد الأولية لصناعة الحلويات تأتي من الخارج مثل الزبدة والحليب والكريما والقشطة والجبنة والشوكولا والطحين والسكر والسمن والزيت الذي ازداد سعره ثلاثة أضعاف مؤخراً والقلوبات من صنوبر وكاجو وفستق حلبي وغيرها التي حلقت أسعارها. في لبنان لا إنتاج كافياً للحليب ومشتقاته وكل إنتاج حيواني يأتي من أوروبا ويحتاج كما المواد السابقة إلى دفع سعره بالعملة الصعبة. حتى البيض الذي هو إنتاج لبناني وصلت أسعاره إلى سقوف خيالية بعد ارتفاع سعر الأعلاف فصارت كلفة 12 كرتونة بيض مثلاً 50 دولاراً بعد أن كانت 24. قليلة جداً هي المواد الأولية اللبنانية مثل الفاكهة وحتى هذه ازدادت أسعارها كما هو معروف. ارتفعت كلفة البضائع والتشغيل فيما الربح تضاءل حتى ولو لم يتضاءل حجم الشغل.
إلى غلاء المواد الأولية تضاف عدة مشاكل تنذر بانهيار القطاع أوّلها مشكلة المازوت والكهرباء، يقول ربيز «أحتاج إلى 11000 دولار شهرياً ثمن مازوت للمولدات لأنني لا أستطيع إطفاء براداتي ولو لساعة حتى لا تفسد منتجاتنا. كذلك علي احتساب خطر تعطل أي من المعدات التي تستعمل في صناعة الحلويات لأن كلفة تصليحها يمكن أن تستهلك كل الربح فإذا تعطل فرن أو براد أو ماكينة خفق تقع الكارثة. إلى هذا تضاف مشكلة فقدان بعض المواد الأساسية من السوق وعدم استيرادها أو التأخر في ذلك وارتفاع كلفة ما هو موجود منها إلى حد خيالي.»
ولأن قطاع الحلويات يحتاج إلى يد عاملة متخصصة وإلى متخصصين يتقنون صنعتهم حتى تنجح وتستمرّ فإن عقدة جديدة تبرز في هذا المضمار. فالمختصون وأصحاب الخبرة باتوا يفتشون خارج لبنان عن وظائف تعود عليهم بمردود أعلى والكثيرون منهم يغادرون في حين يقف أصحاب الباتيسري عاجزين عن التمسك بهم وتقديم الرواتب التي يستحقونها. «نحاول قدر الإمكان الوصول إلى حل وسط مع موظفينا يحفظ حقوقهم ويؤمن لنا الاستمرارية»، يقول ربيز.
النوعية أو الإقفال
الوضع صعب بلا شك والأسعار التي يراها البعض خيالية هي في نظر المختصين واقعية جداً لا سيما بالنسبة لمن يودون الحفاظ على نوعية منتجاتهم ذاتها. لكن الظروف القاهرة تفرض بلا شك على الكثير من محلات الحلويات الصغرى أو الشعبية التغاضي عن النوعية واللجوء إلى مواد أقل جودة لا من حيث خطرها على الصحة بل من حيث النكهة التي تعطيها. فالمارغارين مثلاً أرخص ثمناً من الزبدة لكنه لا يعطي الطعم ذاته والشوكولا الوطني لا يتجاوز سعر الكيلو منه 3,5 دولارات فيما البلجيكي قد يصل سعر الكيلو منه إلى 10 يورو لكن المنتج النهائي يختلف حتماً بالطعم والجودة. وهنا الخيار واضح إما تخفيف الجودة أو الإقفال، لاسيما أن الحلويات مادة سريعة العطب لا يمكن التلاعب بطريقة حفظها ولا يمكن تخزينها فإما بيعها على الفور أو يذهب معظمها للتلف.
أسماء محلات الحلويات الكبرى لا يمكنها التلاعب بالجودة ولو في غياب أية رقابة حالياً، ولا تزال تحافظ على زبائنها وإن تغيّرت طريقة شرائهم، ومن يدخل إلى واحد من تلك المحلات يفاجأ بعدد الزبائن ويتساءل: لماذا «ينعي» أصحاب المحلات ويشكون؟ فما لا شك فيه أن المحلات المترفة لا تزال تحافظ على نوعية زبائنها الذين لم تتأثر قدرتهم الشرائية لا بل ربما ازدادت مع ارتفاع سعر الدولار وبالتالي ازداد الشغل فيها، بعضها رفع أسعاره 100% وبعضها فضّل تخفيف ربحه للحفاظ على كل فئات الزبائن أما المحلات المتوسطة التي كان يمكن للطبقة المتوسطة الدخول إليها مرة أسبوعيا أو في الشهر فهذه تراجع شغلها واضطرت إلى تخفيض أسعارها حتى تتمكن من الحفاظ على من تبقّى من الزبائن.
بعض محلات الحلويات وجد الحل بالانتقال إلى الخارج وفتح فروع في الدول العربية المجاورة أو الدول الأفريقية لكن حتى هذا الحل دونه عقبات كثيرة مع احتجاز المصارف للرساميل وانتفاء الأمل والقدرة على الصمود عند العاملين في هذا القطاع. وبحسرة يقول أحد أصحاب متاجر الحلويات «لقد قتلوا الماضي وسدّوا أفق المستقبل. لو أخذوا أموالي وتركوا لي الأمل بأن الأمور ستتحسّن لربما كنت قادراً على السعي وإعادة ما خسرته لكنني أعرف أن الأفق مسدود والتعب لن يأتي بنتيجة.»
« إيام الحلو راحت يا حلو»
بهذه العبارة يجيبنا سمير حين نسأله إذا كان لا يزال محافظاً على تقليده شبه اليومي بتناول كعكة كنافة كل صباح. « 60000 سعر الكعكة لو اعتبرنا أنني آكل كعكة كنافة خمس مرات في الأسبوع فإنني أحتاج إلى أكثر من مليون ومئتي ألف ليرة شهرياً يعني ثلث الراتب!!!» أما كارل المقدم على الزواج فحساب البقلاوة في ميزانيته يكاد يساوي حساب محبس الألماس.
اللبناني الذي كان يدلّل نفسه ويرفّه أهل بيته ويغنّج صديقته صار يحسب ألف حساب قبل شراء نصف كيلو بقلاوة أو بضع قطع «غاتو»، وصار الحلو مقامات: النمورة والمعكرون للفقراء أما زنود الست فلمن يجدون إليها سبيلاً. ما عاد اللبناني يملك «حق» تناول الحلو ساعة يشاء، اختلفت أولوياته وحساباته وتعكّر مزاجه…والحلو مزاج..