في التاريخ السياسي والعسكري العربي عموماً واللبناني خصوصاً مسلسل متعدد الحلقات من حالات الإستشهاد. هنالك السياسي وهنالك الإعلامي وهنالك العسكري. ولكل واحد من هؤلاء الذين قضوا شهداء سيرة عطرة ومواقف وطنية. والذي يستوقفني كمواطن وكاتب عايش حدوث حالات كثيرة من الإستشهاد في بعض الدول العربية وفي وطننا المغلوب على أمره لبنان هو نوع التكريم لمَن يقضي شهيداً في سبيل الوطن.
هنا وفي معرض الصدمة الناشئة في نفوسنا من التعامل الرسمي مع حالة الإستشهاد الفريدة من نوعها والمتمثلة بالعسكريين الأبطال الذين عاشوا ظروفاً مأساوية ما يجعلنا ونحن نتأمل فيها نستحضر تلك الظروف العاشورائية التي عاشها مظلومون من آل البيت. وإذا كانت الفواجع التي عاشها البعض من الحسينيين أمثولات حوتها تلك السيرة العطرة، فإن مأساة العسكريين الأبطال ستبقى رمزاً لحالة العذاب النفسي وما تلاه من تعذيب جسدي إنتهى بإزهاق الأرواح، كذلك تبقى أمثولة في تفضيل الموت على التسليم بجاهلية الذين خطفوا هؤلاء الأبطال، عِلْماً لو أن العملية كانت منازلة لكان العسكريون على الأرجح هم المنتصرون. ونقول ذلك على أساس أنهم لو إرتضوا بعد أسْرهم الإنصهار في بوتقة خاطفيهم لما كانت عودتهم إلى الوطن ستكون جثامين، وإنما مثل إنتقال الخاطفين وعائلاتهم من ساحة مضطربة إلى مناطق آمنة.
عندما بلغ الرئيس جمال عبد الناصر نبأ إستشهاد عبد المنعم رياض الذي هو أحد جنرالات الجيش المصري المأمول منه العمل على تصحيح تداعيات هزيمة الخامس من حزيران 1967، فإن الصدمة الناشئة عن إبلاغه النبأ أنستْه الشعور بدقة الآلام التي يعاني منها والناشئة عن ذبحة صدرية كانت أصابته وتزامن حدوثها مع إرتفاع منسوب السكري في دمه. ولم يأخذ عبد الناصر بنصيحة الأطباء أن يخلد إلى الراحة التامة ويتفادى الإنفعال قدر الإمكان، وقرر أن يسجل في صفحة التكريم ما هو أمثولة في أصول تعامُل أهل الحكم مع المخلصين من أبناء الوطن عندما يستشهدون. أما الذي فعله فهو أنه تقدَّم موكب جنازة تشييع جثمان عبد المنعم رياض الذي قضى وهو على خط النار بين جنوده. يا ليت رؤساؤنا الثلاثة ومعهم السابقون يفعلون ذلك.
مثل هذا التكريم يستحقه العسكريون الأبطال. ويستحق آباؤهم وأمهاتهم وإخوانهم التكريم يسبق التعويض، وليس كثيراً على الدولة إقامة نصَب في مكان الخيمة محفورة عليه أسماء هؤلاء الأبطال. وأما كتَّاب مسلسلات الدراما الرتيبة وغير الهادفة التي تضج بها المحطات التلفزيونية إلى جانب ما هبَّ ودبَّ من الدرامات المصرية والتركية وغيرها، فإن سنتيْ الخيمة الحزينة وسكانها المحزونون مقرونة بأيام العذاب والتعذيب والموت بشجاعة هي خير مسلسل يملأ النفوس إعتزازاً عوض هذا الشحن المذهبي وكثرة التبرير الذي لا يكفكف دمعة ولا يبرِّد حرقة.