على نحو 375 كلم، تمتدّ الحدود السورية ـــ اللبنانية، التي أنشئت مطلع العشرينيات بقرار من سلطة الانتداب الفرنسي. منذ ذلك، وهذه الحدود خاصرة رخوة للبلدين اقتصادياً بسبب التهريب، وسياسياً مع محاولات استغلالها لزعزعة الاستقرار. أخيراً، عبر بعض السوريين من لبنان إلى سوريا عبر معابر غير شرعية وغير مراقبة صحياً، ما يشكّل تهديداً مضافاً في زمن «كورونا»
دوماً تجد المناطق الحدودية بين سوريا ولبنان ما تنشغل به إلى درجة تهديدها أحياناً الأمن الاقتصادي لكلتا الدولتين. قضية تعود جذورها إلى عقود، لكنها في الأزمة السورية الحالية باتت على درجة عالية من الخطورة؛ الكثير من المال والسلاح كان يتدفق إلى سوريا عبر المعابر غير الشرعية مع لبنان، وعدد من التنظيمات المتطرّفة اتخذت من مناطق حدودية مقراً لها، وعينها على السيطرة على مناطق لبنانية مجاورة، قبل أن تنطلق سلسلة المعارك الشهيرة للجيش السوري وحزب الله لتأمين تلك المناطق واستعادتها، وخاصة في القصير والقلمون والزبداني، مع عمل الجيش اللبناني في الأراضي المقابلة. ما طرأ من متغيرات في تلك المناطق خلال سنوات الأزمة يتشابه مع ما عاشته باقي المناطق الحدودية لسوريا مع دول الجوار الأخرى، إنما ما يميّز الأولى طبيعتها الجبليّة، والوعرة أحياناً، وهذا ما يفسّر وجود أكثر من 120 معبراً غير شرعي، فضلاً عن العلاقات الاجتماعية التي تربط سكانها على الطرفين، سواء نتيجة صلات القرابة والزواج أو بفعل العمل وتداخل ملكيات الأراضي الزراعية، وهو ما كان له وجه سلبي تمثّل في ظهور نزاعات شخصية حول الملكيات، مع تأخر السلطات المعنية في ترسيم الحدود لزمن.
لذلك، لا يتوقع كثيرون توقف المناطق الحدودية عن بعض الأنشطة غير الشرعية ما دامت خارج اهتمام أي مشروع تنموي مشترك يوفر فرص عمل للمقيمين هناك، ويحقّق تقدماً ملحوظاً في مستوى الخدمات، تماماً كما كان مخططاً للمناطق الحدودية بين سوريا وتركيا قبل بدء الأزمة. واليوم تدخل المناطق الحدودية بمعابرها غير الشرعية على خط تهديد الأمن الصحي، رغم أن إثارة المسألة كانت بداية مع المخاوف السورية حيال دخول بعض الأشخاص السوريين بطريقة غير شرعية إلى البلاد، والاشتباه بإصابة بعضهم بفيروس كورونا، الأمر الذي دفع الداخلية السورية إلى إطلاق تحذير صريح بالحجر على جميع المواطنين الذين يأتون من لبنان عبر المعابر غير الشرعية، والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.
حلّ النزاعات أولاً
في نحو مئة عام، كان لتلك المناطق دور بارز في معظم الأحداث التي عصفت بالبلدين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، على الأقل منذ استقلالهما. مع ذلك بقيت الحدود، وفق المدير العام السابق للمصالح العقارية السورية، محمد درموش، «غير ثابتة أو محدّدة بدقة لأسباب سياسية وفنية واجتماعية… الأوضاع السياسية المتقلبة وتباين المخططات والخرائط الموجودة لدى كل جانب وتداخل الملكيات بين التجمعات السكانية حالت جميعها دون ترسيم الحدود بالدقة المطلوبة». يقول درموش لـ«الأخبار»: «بعد 1971، ونتيجة لتحسّن الظروف السياسية، تمّ البدء بترسيم الحدود، وعقدت اللجنة الرسمية المشتركة اجتماعات لهذه الغاية. اللجنة توقفت عن العمل عام 1975 بسبب الحرب الأهلية اللبنانية، وبقيت نقاط عالقة مرتبطة بالتداخل الحدودي يناهز عددها عشرين نقطة لتحول دون استكمال الترسيم». لكن المديرية العامة للمصالح العقارية السورية استطاعت مع نهاية القرن الماضي إنهاء أعمال التحديد والتحرير للأراضي الواقعة على تلك الحدود وفق «خطة دقيقة فنياً وقانونياً».
حذّرت الداخلية السورية بالحجر على الذين يأتون عبر المعابر غير الشرعية، وبالتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء
في مؤشر آخر على أن أولوية معالجة الخلافات الحدودية كانت تتقدم على غيرها من الملفات المرتبطة بمستقبل تلك المناطق، جاء اتفاق البلدين في النصف الثاني من العقد الماضي على تشكيل لجنة ثنائية مشتركة ترأّسها محافظا ريف دمشق والبقاع، للنظر في الخلافات التي تنشب على الملكية أو غيرها هناك. وعقدت اللجنة اجتماعات عدة في دمشق وبعلبك، وحلّت قضايا كثيرة بين 2008 و2009. هكذا، بقيت الأنشطة الاقتصادية غير المشروعة أهم ما تتصف به معظم المناطق الحدودية، رغم الإجراءات الأمنية السورية التي نُفّذت على نطاق واسع منذ السنوات الأولى من التسعينيات، وحققت انحساراً معيناً في حجم التهريب، إضافة إلى توسيع الاهتمام الحكومي بتحسين الخدمات والبنى التحتية للقرى الحدودية. لكن تبقى ظاهرة التهريب، وفق مدير «مركز دمشق للدراسات والأبحاث»، هامس زريق، من «الظواهر المعقدة التي يتداخل فيها العامل السياسي مع الاقتصادي والأمني والاجتماعي والديموغرافي… نتحدث عن مناطق تتوزع فيها العائلات والعشائر على الطرفين». ويقول: «لعلّ تباين النماذج الاقتصادية بين البلدين تاريخياً ساهم في تعزيز التهريب، فالسوريون يطلبون بضائع أجنبية غير متوافرة في أسواقهم تؤمنها السوق اللبنانية، واللبنانيون يطلبون بضائع محلية سورية ذات جودة وسعر رخيص، ناهيك عن تهريب المحروقات باتجاه لبنان عندما كانت أسعارها زهيدة في سوريا».
الأنشطة غير المشروعة
أياً يكن، دفع البلدان على مدى السنوات الطويلة الماضية ضريبة الإهمال لتلك المناطق التي تحوّل بعضها منذ بدايات الأزمة السورية إلى ممر غير شرعي، لا لبعض السلع والمواد فقط، في كلا الاتجاهين، وإنما للمال والسلاح والمسلحين، ولاحقاً صارت معقلاً لتنظيمات متعددة. لكن مع استعادة الحكومة السورية سيطرتها على جميع المناطق الحدودية، السؤال: هل ستُترك هذه المناطق مجدداً لتعود إلى وضعها السابق، أم ستكون موضع مشروع تنموي يخلصها من الأنشطة غير الشرعية، ويحقق لها استقراراً تنموياً واجتماعياً ينعكس إيجاباً على الأمن؟
من المهم معرفة أن النشاط الزراعي يغلب على معظم اقتصادات القرى الحدودية، وبعضها حقق نتائج لافتة على صعيد الإنتاج، لكن ارتفاع تكاليفه وتوقف خطوط التصدير نحو أسواق الدول العربية، ودخول الأزمة وتداعياتها، عوامل جعلت الكثير من السكان يعاودون الانخراط في الأنشطة غير المشروعة بالنظر إلى مردودها الجيد، وهذا ما تظهره نتائج مسح السكان لعام 2014، إذ أكدت تقديرات الباحثين المشاركين في المسح أن مساهمة التهريب في دخل الأسر المقيمة في أربع مناطق حدودية رئيسية ارتفعت خلال سنوات الأزمة. ففي عسّال الورد مثلاً، ارتفعت مساهمة التهريب من نحو 10% إلى 25%، وفي القصير من 5% إلى 15%، وتلكلخ من 10% إلى 15%. أما مدينة الزبداني، التي شهدت وجوداً مسلحاً واشتباكات مستمرة منذ 2012، فحافظت على النسبة نفسها الخاصة بمرحلة ما قبل الأزمة، والمقدّرة بحوالى 5%. وتصبح هذه التقديرات أكثر معنى لو تمت مقاربتها مع التقديرات الإحصائية المتعلقة بالأوضاع المعيشية لتلك المناطق، إذ تتضح أهمية التهريب كمصدر دخل أساسي. ففي المناطق التي شهدت زيادة في نسبة اعتماد الأسر على التهريب، كانت نسبة الأفراد الذين يعانون الفقر المدقع اللازم أقل بكثير من نظرائهم في المناطق التي حافظت فيها ظاهرة التهريب على معدلاتها المسجلة قبل الأزمة، فمثلاً بلغت نسبة هؤلاء في عسال الورد والقصير وتلكلخ نحو 5%، في حين وصلت نسبتهم في الزبداني إلى 30%. كذلك الحال للأفراد الذين يعانون العجز عن شراء الاحتياجات الرئيسية غير الغذائية، وقدر مسح السكان عام 2014 نسبتهم في عسال الورد بنحو 10%، والقصير 15%، وتلكلخ 30%. أما في الزبداني، فوصلت إلى حوالى 50%. وهذه نسبة ربما يكون لظاهرة النزوح الجماعي لسكان المدينة وما شهدته من معارك في تلك الفترة دور في تشكلها، لكن في المحصلة لا يمكن تجاهل تلك المؤشرات حتى إن اقترنت بمدة معينة.
وكما يعتقد مدير مركز «دمشق»، إن «غياب التنمية المحلية على طرفي الحدود يجعل خيارات قاطني تلك المناطق محدودة ويصبح التهريب الخيار الأجدى، وتالياً إن العمل على خلق برامج تنموية يصير ضرورياً للتخفيف من هذه الظاهرة، إذ إن الإجراءات الأمنية، على أهميتها، لن تكون كافية بسبب طول الحدود والطبيعة الجغرافية الصعبة لها». لكن ما دام التنسيق الحكومي بين البلدين شبه متوقف أو في أدنى مستوياته، يبقى الحديث عن تحويل التجمعات السكنية الحدودية إلى مناطق تنموية طموحاً مؤجلاً إلى حين تحسّن الظروف السياسية والاقتصادية، وعودة قنوات التعاون والتواصل.