Site icon IMLebanon

النموذج السوري «يحوم» في الأجواء

 

رغم أهمية ما ورد في تقرير «موديز» للتصنيف الائتماني وخطورته، إلّا انّ مضمون التقرير في معظم تفاصيله كان معروفاً لدى المتابعين للوضع المالي والاقتصادي. لكن، وبمجرّد مَهر هذه الحقائق بخَتم «موديز»، أصبحت الأزمة القائمة «رسمية» أكثر، وتحولت وثيقة تستند إليها الدول والمؤسسات الدولية في تقييم الوضع اللبناني، وهنا تكمن المشكلة.

 

فجأة، أصبح الحديث عن العجز في الميزان التجاري الشغل الشاغل في البلد، وصار هذا العجز هو المسؤول الوحيد عن الأزمة القائمة، ومعالجته هي الطريق نحو الخلاص. لكنّ هذا العجز، ورغم أنه يُصنّف في خانة الاعاقة بالنسبة الى الاقتصاد ومعالجته تساعد في تحسين اقتصاديات الدول، الّا انه قائم في الحالة اللبنانية منذ عشرات السنين، ولا يمكن تحميله لوحده المسؤولية في الكارثة التي يتجه إليها الوضع المالي.

 

في كل الحالات، إنّ معالجة الخلل في الميزان التجاري (خفض الثغرة بين الاستيراد والتصدير)، لا يمكن أن تتم بين ليلة وضحاها، وهي لا تأتي بقرار فوري برفع الرسوم على البضائع المستوردة، إلّا في حال الاعتراف بالافلاس، وضرورة الانتقال من النظام الاقتصادي الحر الى الاقتصاد الموجّه. وللتذكير، هناك دول اعتمدت هذا الخيار، منذ البداية، مثل جارتنا سوريا. كان اقتصادها قبل الحرب متماسكاً من حيث مفهوم الانتاجية، ومالية الدولة العامة، ووضعية الميزان التجاري. في المقابل، كان مستوى عَيش الفرد السوري منخفضاً جداً قياساً بمستوى عيش الفرد في لبنان. وبالتالي، كان اللبناني يعيش حياة رفاهية وبحبوحة تضمن له معظم مقومات الحياة العصرية ومتطلباتها، رغم انّ دولته مديونة، وميزانها التجاري في عجز كبير، وماليّتها العامة مُختلّة التوازن. في حين كان المواطن السوري يعيش في دولة ميزانها التجاري في حال عجز مقبول (6,2 مليارات دولار في العام 2010)، وماليتها العامة مستقرة، وسعر نقدها ثابت، ومع ذلك كان مستوى عيش السوري منخفضا ًجداً، ولا تجوز مقارنته بالمستوى المرتفع الذي كان يتمتع به اللبناني.

 

كل هذا التوصيف يعني انّ أزمة لبنان اليوم، وإن كان العجز في الميزان التجاري جزءاً منها، تحتاج الى ما هو أبعد وأسرع من محاولات خفض العجز القائم بين التصدير والاستيراد.

 

ما كان يجري سابقاً، أنّ تدفّق الأموال والرساميل الاستثمارية والتحويلات الى لبنان يكفي لتأمين التوازن في ميزان المدفوعات. وما يخسره البلد من عملات صعبة في الاستيراد المُفرط، يعوّضه بسهولة في التحويلات الخارجية، وفي جَذب الاستثمارات، وعبر إدخال العملات الصعبة من خلال الخدمات والسياحة.

اليوم، خسر لبنان القسم الاكبر من مداخيل الخدمات والسياحة، خصوصاً انّ عدد الوافدين الى البلد يزداد والايرادات من العملات الصعبة تنخفض، لأنّ الوافدين في قسم منهم مجرّد عابري سبيل، والقسم الآخر من نوعية السيّاح المتوسطي الحال، ولا يتجاوز إنفاق الفرد منهم كمعدّل عام الـ1000 دولار، في حين أننا فقدنا السائح الخليجي الذي كان يتجاوز معدل إنفاقه الـ5000 دولار. كذلك، خسر البلد القسم الاكبر من الرساميل الاستثمارية، وبقيَ لدينا فقط التحويلات التي تأتي من القوى اللبنانية العاملة في الخارج، وهي لا يُستهان بها لأنها قد تصل الى 9 مليارات دولار سنوياً، بما كان يشكّل حوالى 18% من الناتج المحلي (GDP)، وهي نسبة مرتفعة وكافية لضمان استمرارية تمويل الدولة والقطاع الخاص.

 

لكنّ هذه الميزة المستمرة منذ اكثر من ربع قرن، بدأنا نفقدها في الاشهر الأخيرة، وهذا هو السبب الرئيسي وراء تفاقم الأزمة بشكل سريع. وإذا استندنا الى تقرير «موديز»، فإنّ حجم ارتفاع الودائع في المصارف لن يزيد عن 5 مليارات دولار في العام 2018. وهذا يعني انّ حجم التحويلات انخفض، وكذلك إنّ قسماً من الاموال قد يكون خرجَ من لبنان، لأنّ التحويلات لم تنخفض الى ما دون الـ7 مليارات دولار، فلماذا لم ترتفع الودائع بالحجم نفسه؟ هذا الوضع عَكسهُ ميزان المدفوعات الذي سجّل عجزاً قياسياً مُقلقاً حتى تشرين الاول بقيمة 5,6 مليارات دولار. وهنا تكمن الكارثة بكل معنى الكلمة.

 

هل هذا يعني أنّ إمكانية الحلول أصبحت معدومة؟

البلد يحتاج الى عامل واحد لكي يصمد لفترة أطول، ومن ثم يمكن البدء في المعالجات. هذا الحل يكمن في توفير مناخ الثقة. وهذا ما يفسّر، على سبيل المثال، لماذا وصل معدل التدفّق المالي السنوي الى لبنان بين 2008 و2010 الى 18 مليار دولار، (حوالى 54 مليار دولار في 3 سنوات)، وكان الازدهار قائماً، رغم انّ العجز في الميزان التجاري في هذه السنوات الثلاث بلغ القمة، ووصل معدل الاستيراد مقارنة بالصادرات الى حوالى 22%، في حين انه تراجع اليوم الى حوالى 17%، بما يؤكد انّ المشكلة الحقيقية تكمن في التدفق المالي، الذي لن يعود إلّا اذا توافر الحد الأدنى من مناخ الثقة. هذا المناخ لن يتأمّن إلّا اذا تشكلت حكومة، وأوحَت أنها طَوت صفحة الصراعات، وستبدأ مرحلة مختلفة من الاصلاحات البنيوية. وبعد ذلك، يمكن ان تتم معالجة الإعاقات، ومن ضمنها خفض العجز في الميزان التجاري، لتصل نسبة الاستيراد الى التصدير أكثر من 30%. وهي نسبة كافية، قبل استخراج النفط لتحقيق التوازن المالي، في حال سادَ مناخ من الثقة وانتظمَ العمل الحكومي بشكل طبيعي.

 

هل المطلوب مستحيل الى هذا الحد؟ حكومة، وحَدّ أدنى من الثقة لبدء العمل؟