لم يكن النظام السوري لصاحبه بشار الأسد يلفظ أنفاسه الأخيرة عندما سقطت، في أيار (مايو) 2015 (يقال سلمت من دون قتال) مدينة تدمر التاريخية في أيدي «داعش»، بدلالة أنه استبدلها يومها بما سماه «سورية المفيدة»، وليس هو الآن بعد استعادتها (ويقال إعادة تسليمها مجدداً) أقوى مما كان، على رغم ما يشيعه وإعلامه وحليفه الإيراني عن «النصر» الجديد. في الحالتين، يثبت هذا النظام أن ما ردده أنصاره على الدوام تحت عنوان «الأسد أو نحرق البلد»، لم يكن مجرد لافتة أو شعار، انما نهج في الحكم لا يتأخر عن فعل شيء لوضعه قيد التطبيق. أما الفارق الوحيد، فهو «الترجمة» السياسية التي سارع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى إطلاقها بـ «تهنئة» الأسد، ليرد الأسد عليه بالامتنان منه، لأن ذلك لم يكن ممكناً لولاه، ثم ليتبرع بمنح القوات الروسية إقامة دائمة الآن وفي المستقبل في سورية.
هل هذا هو «النصر» المؤزر الجديد للنظام؟
الحال أن الأسد لم يضع في خطته منذ بداية الثورة ضده قبل خمس سنوات سوى البقاء في السلطة، ولو لشهور أو حتى لأيام. وبالنسبة لتدمر تحديداً، لم يكن خافياً أن احتلالها من «داعش» تم بسرعة قياسية، ومن دون قتال من قبل قوات النظام، تماماً كما كانت الحال في المناطق التي سيطر عليها قبل ذلك «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي شمالي سورية (أعلنت منطقة فيديرالية مؤخراً)، ومثلها في الوقت ذاته مدينة الموصل وكامل محافظة نينوى في العراق.
وفي سياق هذه الخطة، كما بات معروفاً، أفرج الأسد من سجونه عن عدد من المتطرفين الإسلاميين ومنحهم حرية حركة في تشكيل مجموعات ميليشياوية والسيطرة على بعض المناطق، كما شكل بدوره ما عرف أولاً باسم «الشبيحة» ثم لاحقاً باسم «قوات الدفاع الشعبي»، من دون أن ننسى استجلابه فيما بعد «الحرس الثوري الإيراني» وميليشيات «حزب الله» اللبناني و «أبو الفضل العباس» و «عصائب أهل الحق» العراقيين وغيرها.
… حتى وصلت الحال في 30 أيلول (سبتمبر) الماضي الى دخول القوات والمقاتلات الروسية أراضي سورية وبدء عملياتها في الدفاع عن النظام السوري، تحت عنوان إعادة التوازن بين النظام والمعارضة من جهة، ومحاربة «داعش» والتنظيمات الإرهابية من جهة ثانية.
لم يفعل الأسد غير ذلك في الأعوام الـ5 الماضية، ولن يفعل غيره في المستقبل… بوجود قوات بوتين في سورية، كما قال، أو من دون وجودها. وفي المفاوضات الجارية حالياً في جنيف، ليس في الأفق ما يشي بأن تغييراً في مقاربة النظام للوضع ولإنهاء الحرب في سورية يمكن أن يحدث الآن أو حتى في المستقبل.
لكن استعادة السيطرة على تدمر، وبهذه الطريقة، تطرح من دون شك تساؤلات حول ما قيل مراراً عن طبيعة العلاقة بين النظام و «داعش». هل يمكن هضم واقعة انسحاب هذا التنظيم من تدمر، بعد نحو شهرين من معركة قاسية خاضها مع القوات العراقية لأسابيع عديدة في مدينة الرمادي، قبل اضطراره للانسحاب منها مهزوما؟ وهل ينسجم ذلك مع احتفالات النظام وحلفائه، بمن فيهم روسيا، بما سموه «النصر» على الإرهاب؟
وإلى أين من هنا؟
غني عن البيان، أن الأسد سيحاول أن «يبيع» مسألة استعادة تدمر من أيدي «داعش» الى بلدان العالم التي طالما وضعها أمام الخيار الذي رسمه بإتقان: إما الأسد أو «داعش». وحتى بالنسبة لمقولة بوتين عن عدم القدرة على هزيمة «داعش» وغيره من دون التعامل مع النظام، فإنه سيعمل الشيء ذاته مع الدول التي كانت ترفض هذه المقولة، بل ترى العكس تماماً: لا إمكان لهزيمة الإرهاب في سورية ما دام الأسد في السلطة.
ولقد قالها علناً ممثل النظام في الأمم المتحدة، رئيس وفده الى جنيف، بشار الجعفري عندما دعا كلاً من «التحالف الدولي» والولايات المتحدة بالذات الى التنسيق مع سورية في محاربة الإرهاب. كما قالها الأسد نفسه عندما وصف استعادة تدمر بأنها تساعد مؤتمر جنيف في تشكيل «حكومة وحدة وطنية» مع المعارضة والمستقلين.
وهذه كلها ذرائع النظام نفسها، وأساليبه للخداع والمماطلة من دون تغيير، لكي يبقى في السلطة ربما لسنوات أو حتى لشهور وأيام من ناحية، ولكي يهرب من أي إصلاح يطالب به الشعب السوري وقد دفع الغالي والثمين من حياته ومقدرات بلده من أجله من ناحية ثانية.
… وبعد خمسة أعوام من القتل والتهجير، وسقوط ثلاثمائة ألف شهيد وحوالى مليون جريح، وتهجير نصف الشعب السوري، واحتلال الأرض من جانب قوات أجنبية (إيرانية وروسية وأميركية) وميليشيات إرهابية («داعش» و «جبهة النصرة») وأخرى لبنانية وعراقية («حزب الله» و «عصائب أهل الحق» وغيرهما)، لا يزال النظام السوري لصاحبه بشار الأسد يواصل اللعبة إياها وكأن لا شيء حدث.
ولعل هذا بالذات ما تعنيه المعارضة، عندما تقول أنه لا تسوية ممكنة إذا لم تنص بصراحة وبجلاء على رحيل الأسد حتى قبل المرحلة الانتقالية التي يكثر الحديث عنها.