Site icon IMLebanon

النظام السوري لـ «تأسيد» الإسلام السياسي على صورة «البعث»

 

ما يربط بين المرسوم الرقم 66 والقانون الرقم 10 والمرسوم الرقم 16 وعملية إنهاء الصراع في سورية، ثلاثة أهداف: الاستيلاء على الأراضي والأملاك، واستكمال هندسة التركيبة الديموغرافية «المنسجمة» وفقاً للمصطلح الذي أطلقه رئيس النظام، والتخريب المسبق على أي حل سياسي. المرسوم 66 استغلّ ظروف الحرب لهدم المساكن العشوائية في منطقة بساتين الرازي جنوب غربي دمشق وهجّر سكانها قسراً ومن دون أي تعويض بحجة إيوائهم «إرهابيين»، أي أن المنطقة عوقبت لأنها غير موالية للنظام. والقانون 10 أقرّه ما يسمّى «مجلس الشعب» آخذاً بالنموذج الإسرائيلي في وضع اليد على «أملاك الغائبين»، أي الاستحواذ على كل عقار لا يقطنه أهله الذين اضطرّوا للهرب من مجازر النظام وبطشه، وهذه من المرّات النادرة التي يقدم فيها «برلمان» على تشريع يجيز سرقة الأملاك الخاصة، والمثل الأقرب هو تشريع الكنيست الإسرائيلي سرقة الأراضي الفلسطينية لإقامة المشروعات الاستيطانية. أما المرسوم 16 فيتعلق بإعادة تنظيم وزارة الأوقاف، ولوهلة قد لا تبدو له علاقة بـ «التشريعَين» الآخرين إلا أن ضخامة أملاك الأوقاف في كل المدن السورية تفسّر الاهتمام المفاجئ بهذه الوزارة، خصوصاً أن النظام مهووس حالياً بمسألة إعادة الإعمار (من دون تمويل خارجي)، ويلزمه بعض تلك الأملاك في منطقة دمشق أو يريد وضع يده على معظمها الذي دمّر وتضرّر كليّاً أو جزئياً في حمص وحلب.

 

 

كان الإيرانيون من أبرز المستفيدين من المرسوم 66 والقانون 10، إذ أنهم تطلعوا منذ ما قبل الأزمة إلى استملاك عقارات في أكثر مناطق السنّة عراقةً لتشييعها وترسيخ تغلغلهم فيها، ثم بادروا باكراً، منذ أواخر عام 2011، إلى مضاعفة نشاطهم، معتمدين على شيوع سلطة الشبيحة، ومستخدمين التهديد والترهيب لجعل حياة أصحاب الأملاك لا تطاق ولإرغامهم على الرحيل، بعد بيعها. أما «أمراء الحرب»، وهم من ضباط النظام الذين فتحوا دكاكين ميليشياوية لحسابهم، محلية أو عابرة للمناطق، فقد حصلوا أو في صدد الحصول على مكاسب من «أملاك الغائبين» المصادرة، بعدما كانت عصاباتهم أنجزت نهب و «تعفيش» ما فيها. كان القانون 10 أثار ضجّة قبل شهور قليلة حتى أن حكومات غربية راجعت موسكو للتدخل وتجميد تنفيذه، لا لشيء إلا لأنه ينسف جذرياً احتمال عودة السوريين الذين لجأوا إلى الخارج، كما أنه يقوّض أسس أي حل سياسي.

 

هناك طبعاً أهداف أخرى لقانون الأوقاف، سياسية وتمييزية وطائفية – عنصرية كما يراها البعض. لكن الأوقاف ليست دينية فحسب، بل هي من أغنى الوزارات، والدولة حالياً مفلسة وتبحث عن موارد فيما تعيش على منظومة «خوّات» يغذّيها رجال أعمال النظام، فهو ساهم في تسمينهم ولا بدّ أن يساهموا في بقائه. وحين يشار إلى الأوقاف إنما يشار إلى السنّة تحديداً، فالوزارة لا علاقة لها بأوقاف المسيحيين والعلويين والشيعة والدروز والإسماعيليين وغيرهم. أصدر بشار الأسد المرسوم 16، متجاهلاً «مجلس الشعب» الذي لن يُسمح له بمناقشته أو تعديله، ومتجاهلاً أيضاً السنّة الموالين، لماذا؟ لأن وضع اليد على أموال الأوقاف هو الهدف الأبرز لهذا المرسوم، لكنه يغطّى بمشروع يبدي ظاهرياً نية «المصالحة» مع السنّة عبر تضخيم دور الأوقاف فيما يبطن خططاً للتحكّم بتفاصيل التديّن وممارسة طقوس الحياة الدينية، ويربطها بـ «مكافحة الإرهاب». يريد النظام الإيحاء بأن سورية ستكون مركزاً للتسنّن ينافس السعودي والتركي، لكنه يستنسخ عملياً التجربة الإيرانية وخطط التشيّع ودوافعها المرتبطة بالتوسّع الفارسي في المنطقة العربية.

 

في ردود الفعل المتضاربة على قانون وزارة الأوقاف هناك من حذّروا من أن تعظيم دورها سيمكّنها من «ابتلاع الدولة» ونسوا أن النظام يسعى إلى توظيفها في خدمة سلطته، فالوزير و «المجلس العلمي الفقهي الأعلى» والمُفتُون ورجال الدين كافةً لن يحظوا بأي دور أو صفة ما لم ترضَ عنهم «مرجعية» الأمن والاستخبارات. وهناك من تخوّفوا من إضعاف «علمانية الدولة» كأنهم كانوا يصدّقون أن النظام علماني، فهو لا يستحق أبداً هذا التصنيف ولو صحّ أنه علماني لصحّ في المقابل أن الثائرين عليه إرهابيون. هذا نظام أثبت أن الاستبداد دينه، واختزل قيمه في الإجرام والتعذيب حتى الموت والتجويع والتدمير والتهجير والتشريد. وليس في كل ذلك اي علمانية. نعم، إنه يبحث عن سبل لاحتواء من رفضوا سلطته، لكنه لا يزال مسكوناً بالعقلية السقيمة ذاتها، ويظن أن العالم قبله أخيراً حين اضطر للمفاضلة بين دمويته ودموية «داعش». لكن أي حكم مؤسّس على إرهاب الدولة لن يشكل حلّاً دائماً في سورية.

 

يطمح النظام إلى إنتاج «إسلامه» أو «نموذجه» للإسلام، ومن البدهي أنه غير مؤهّل لمهمة كهذه، فسورية تميّزت على الدوام بالإسلام الوطني المعتدل الذي لم يكن لأي نظام فضلٌ عليه، بل كان له هو الفضل الأول في حماية الوطن من عبث النظام والحفاظ على المجتمع. يستطيع النظام أن يقولب أزلامه «الأوقافيين» كيف ما شاء، لكن نظرة متفحصة إلى القانون 16 لن تتأخّر في كشف آليات تنظيم الأوقاف، فهي استنساخ مفضوح لهيكلية حزب البعث الذي أثبتت الأزمة أن نجاحه في تحصين النظام كان محدوداً وأن فشله في إشاعة الاستقرار كان ذريعاً. وبناء على الهيكلية المقترحة للأوقاف فإن النظام يرشحها لأن تكون حزباً حاكماً آخر، له قيادة قطرية جاهزة (الوزارة) وأمناؤه العامون والمساعدون (المجلس الفقهي) ورؤساء الفروع (مُفتو المحافظات)، وحتى «فريقه الديني الشبابي» على غرار «شبيبة البعث». أي أن «شبيبة الأوقاف» مرشحة لمشاركة «شبيبة البعث» سواء في تجسسها على الناس أو في تحوّلها لاحقاً إلى ميليشيات للنظام.

 

في شريط تعريفي/ دعائي، أغفل إعلام النظام كثيراً من الجوانب المثيرة للجدل في قانون الأوقاف ليركّز على ما يعتبره «إيجابيات» (مثل: الرقابة على العمل الديني، ضبط الفتاوى، الرقابة على البرامج الدينية، تمكين اللغة العربية، فضلاً عن «الإشراف على «معاهد الأسد» لتحفيظ القرآن الكريم»…). غير أن منظومة النفاق لا تلبث أن تفرض ذاتها في المقارنة بين السلوك الموصوف للنظام و «المبادئ» التي يريد للمسلمين أن يعتنقوها، ومنها مثلاً «الانتماء إلى الإسلام لا يناقض الانتماء إلى المواطنة»، أو «نشر ثقافة الاعتدال»، علماً أن آخر ما يمكن النظام ادعاءه أنه يحترم قيم المواطنة والاعتدال. لكن الأمر ينزلق إلى الهزل الأسود حين يرد مثلاً «اعتماد أسلوب الحوار مع المخالفين»، فهذا بالضبط ما عجز عنه النظام دائماً، وليس فقط منذ اندلاع الثورة عليه. أما «الاهتمام بالمرأة والطفل وتأكيد حقوقهما» فكان الأحرى بالنظام أن يؤكّد احترامه حقوق نساء وأطفال قضوا في سجونه، وحقوق آلاف منهم قُتلوا بــبراميله وصــــواريخ طائراته. لا شك في أن النقطة ال`ـوحيدة التي تعني ما تقول هي «إدارة أموال الأوقاف والإشراف على صرفها في مكانها الصحيح»، أي حيث يشاء النظام. هذه القوانين والمراسيم مثل انتخابات المجالس المحلية، مثل دستور 2012 والانتخابات الرئاسية (2014) والبرلمانية (2016)، وقائع يفرضها النظام ليقول أن «الدولة» موجودة وأن الأسد باقٍ في منصبه. ولأن النقاش في شأن اللجنة الدستورية يحدّد لغياب الأسد موعداً أقصاه نهاية ولايته الحالية في 2021، فإن ثمة تفكيراً جدّياً لدى النظام في إجراء انتخابات مبكّرة خلال السنة المقبلة، ليس فقط للردّ على ما يُقال ولطمأنة بيئته الموالية في الداخل، بل خصوصاً لاستباق أي دستور جديد يُفترض أن يحدّ من صلاحيات الرئيس ويوسّع صلاحيات رئيس الوزراء. يبقى للأسد هدفان رئيسيان: أولهما أن يجعل المفاوضات الدستورية عملية بلا أي نهاية، طويلة ومعقّدة وعقيمة، ولعل تركيبة اللجنة الدستورية (ثلث للنظام، وثلث للمعارضة مخترق روسياً، وثلث للمجتمع المدني مخترق من النظام وروسيا) تسمح له بذلك. أما الهدف الآخر فهو أن يحمل الروس على العودة إلى السيناريو الأوليّ الذي تبنّوه دائماً للحل السياسي (حكومة برئاسة الأسد وبمشاركة أسماء «معارضة» مع تعديلات طفيفة للدستور الحالي) وتظاهروا دائماً بدعم تطبيق القرار 2254 من قبيل الخداع أو المناورة واستدراج مساومات مع الأميركيين والأوروبيين. لكن المؤكّد أن أي دستور، مهما كان مثالياً، لا يغيّر شيئاً بوجود الأسد ومنظومته الأمنية.