Site icon IMLebanon

“الزوبعة” في الفنجان

 

منذ إعدام مؤسّس وزعيم الحزب “السوري القومي الإجتماعي” أنطون سعاده في 8 تموز 1949 لم يمرّ الحزب بأزمة أسوأ من الأزمة الحالية. على رغم كل المسار الإنحداري لا يبدو أنّه في وارد الخروج من التخبّط والإنقسام وربّما الإنحلال التنظيمي. بالكاد يمكن تذكّر من هو رئيس الحزب مثلًا منذ عدة أعوام. أكثر من الحزب تبقى صورة رئيسه السابق أسعد حردان هي الحاضرة.

 

قاد أنطون سعاده حزبه من الخارج أكثر مما فعل من لبنان. لم تمض خمسة أعوام على إعلان التأسيس في العام1932 حتى غاب في العام 1937 في البرازيل والأرجنتين. بواسطة الرسائل بقي محافظًا على التركيبة الحزبية. ولكن في لبنان كانت هناك قيادة تستطيع أن تتحرّك وتستقطب. بين الفكر القومي السوري الإتجاه وبين اللبنانية الناشئة لم يرُق لسعاده بعض الجنوح في العقيدة نحو اللبننة أكثر، ولذلك عندما عاد إلى لبنان في 2 آذار 1947 بعد عشرة أعوام ألقى خطاباً أعاد فيه التذكير بالثوابت الفكرية الحزبية، وأول القرارات التي اتخذها كانت طرد من اتهمهم بأنهم أرادوا أن يحرفوا العقيدة السورية القومية الإجتماعية وأن يجعلوا من الحزب مسألة لبنانية، وأبرز هؤلاء كان نعمة تابت.

 

ضياع بين قوميتين

 

غادر سعاده قبل إعلان الإستقلال وعاد بعده. لم يرق للسلطة الحديثة في تلك المرحلة أن يعود بهذا الخطاب الذي يتجاوز الكيانية اللبنانية ولا يقترب من القومية العربية. ولذلك تمّت ملاحقته وصدرت مذكرة لاعتقاله. توارى في ضهور الشوير ولكنه أراد أن يجري تسوية مع السلطة، من خلال إصدار بيان يعترف فيه بالكيان اللبناني ويكون مدخلًا لإلغاء مذكرة توقيفه. كان فريد صباغ من ضهور الشوير قريباً منه ومنتمياً إلى الحزب. تمّ البحث في كتابة البيان وكان كامل مروّة مؤسّس جريدة “الحياة” يقيم في ضهور الشوير أيضاً. بقلم كامل مروّة تمّت كتابة البيان وبقي القلم مع فريد صباغ. احتفظ بالذكرى وبالقلم طوال خمسين عاماً حتى أعاده إلى عائلة كامل مروّة.

 

إعتقد سعاده أنه يمكنه أن يحكم لبنان عن طريق الإنقلاب. بعد انقلاب حسني الزعيم في سوريا في آذار 1949 أراد أن ينفّذ خطة للإنقلاب في لبنان. كان استطاع أن يعيد شدشدة العصبية الحزبية مستفيداً من تجربة هزيمة الأنظمة العربية في الحرب الفلسطينية في العام 1948، ومن سعي رئيس الجمهورية بشارة الخوري للتجديد ومن اعتباره أن الزعيم ينتمي إلى حزبه، وبالتالي يمكن أن يحكم هذا الحزب سوريا ولبنان معاً ويضع الخريطة الأولى للهلال الخصيب الذي نادى به وآمن. ولكن الثورة التي أعلنها في 4 تموز بعد أيام على اصطدامه مع السلطة في منطقة الجميزة وفراره إلى سوريا انتهت بعد أربعة أيام بالفشل، حيث أن حسني الزعيم سلّمه إلى السلطة اللبنانية التي أخضعته لمحاكمة عسكرية سريعة وأعدمته في 8 تموز 1949.

 

الحزب والإنقلابات بعد سعاده

 

على الرغم من حملة الإعتقالات الواسعة التي شملت العديد من القوميين وعلى الرغم من غياب سعاده فقد استمرّ الحزب واستطاع أن يكون له حضور سياسي وأمني في لبنان وسوريا، بحيث بقيت له بصمات بارزة في محطّات كثيرة كانت تشكل انعطافات في تقرير مصير الصراع في المنطقة. هكذا مثلاً استطاع الحزب أن يكون له حضور فاعل في عملية إسقاط حكم الرئيس بشارة الخوري، من خلال المشاركة في مهرجان المعارضة في دير القمر في العام 1952. كما أنّه كان له دور فاعل في الإنقلابات التي حصلت في سوريا. من انقلاب سامي الحناوي على حسني الزعيم وإعدامه، ثم في انقلاب أديب الشيشكلي على الحناوي. ولكن الحزب في هذه المرحلة كان يعتبر يمينياً أو قريباً من السياسة البريطانية ومن محور العراق، في ظل حكم الملك فيصل ووليّ العهد عبد الإله ورئيس الوزراء نوري السعيد. وهذا ما جعله في قلب اللعبة السياسية ومشاركاً في صناعة بعض الأحداث. ولعلّ نجاح مجموعة منه في اغتيال الرئيس رياض الصلح في الأردن في 16 تموز 1951 ألقى الكثير من الظلال على توجّهاته وارتباطاته. لم يحمل الحزب مثلاً مسؤولية إعدام زعيمه للرئيس بشارة الخوري بل للصلح، وإذا كان نجح في اغتياله وهو في سيارته متوجهاً إلى المطار عائداً من الإردن إلى بيروت، فإن تساؤلات كثيرة مثلاً دارت حول من سهّل له هذه العملية التي قُتل فيها أحد المنفّذين وانتحر الثاني وتمكّن الثالث من الفرار والخروج من الإردن؟

 

ضدّ عبد الناصر

 

في سوريا مثلاً كان في قلب الصراع مع حزب البعث وهذا ما سهّل عملية اتهامه باغتيال العقيد عدنان المالكي في العام 1955. ولكن تلك العملية التي انتهت بمقتل المالكي وانتحار منفذها يونس عبد الرحيم، تحوّلت زوبعة ضدّ الحزب الذي كان يقوده جورج عبد المسيح. نظّم النظام السوري حملة ضد الحزب واعتقل قياداته وحظّره وزجّ بزوجة أنطون سعاده جولييت المير في السجن، الأمر الذي أدى إلى حملة ضد جورج عبد المسيح، الذي فرّ إلى لبنان، وإلى محاكمته حزبياً، وإلى أول انشقاق. ولكن هذا الأمر لم يمنع من أن يكون الحزب مشاركاً في العام 1956 في التحضير لعملية انقلاب ضد النظام الحاكم في سوريا، الذي كان يحضّر للوحدة مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر. ولكن هذه العملية انكشفت وتمكّنت المخابرات السورية من ملاحقة من وما تبقى من الحزب هناك وصولاً إلى اغتيال عميد الدفاع فيه العقيد غسان جديد في بيروت. تلك المحاولة الإنقلابية تم التحضير لها بالتنسيق مع الحكم الملكي في العراق وفي ظلّ رئاسة كميل شمعون للجمهورية في لبنان، وقد تمّ نقل كميات من السلاح من لبنان إلى سوريا عبر الحدود الشمالية، ولكن انقلاب شاحنة محمّلة بهذا السلاح في حادث عرضي كشف العملية وأحبطها.

 

لم يكن الحزب راضياً عن الوحدة بين مصر وسوريا ولم يكن بعيداً من التنسيق مع الرئيس كميل شمعون حتى أنه كان إلى جانبه في أحداث 1958. العلاقة مع شمعون تعود إلى مرحلة ما قبل عودة سعاده من الخارج في العام 1947، حيث كان شمعون وزيراً للداخلية عندما صدرت مذكرة التوقيف بحق سعاده، وكانت قيادة الحزب المحلّية قريبة منه. ولذلك لم يكن شمعون بعيداً من الشبهة في دعم محاولة الإنقلاب التي نفذها الحزب ضد الرئيس فؤاد شهاب في آخر العام 1961، بعد ثلاثة اشهر على انهيار الوحدة بين مصر وسوريا. فشلت تلك العملية بسبب سوء تنفيذها وبسبب عدم التخطيط الجيّد لها وبسبب اكتشاف حصولها وهي قيد التنفيذ، ممّا ساعد في تمكين العهد الشهابي من الإنقلاب على الإنقلاب. وكما حصل في العام 1949 تعرّض الحزب لحملة اعتقالات واسعة، شملت قياداته ورئيسه عبدالله سعاده وأسد الأشقر والضباط المشاركين من الجيش اللبناني وأبرزهم فؤاد عوض وشوقي خيرالله. ولكن بعدما أثيرت شبهات كثيرة حول داعمي هذا الإنقلاب كان من اللافت أن يستقبل الملك حسين في الأردن القيادة الجديدة للحزب.

 

التحول والإنحلال

 

خرجت القيادة الحزبية من السجون تباعاً قبل العام 1970. عشرة أعوام كانت كفيلة بنقل الحزب من ضفة إلى أخرى متأثراً بالتنظيمات الفلسطينية. ضعف القيادة الحزبية والضربات الكثيرة التي تعرّض لها الحزب سهّلت عملية الإستحواذ على عدد من قياداته وعناصره، خصوصاً للعمل ضمن تنظيمات أمنية فلسطينية وهذا ما أدى عملياً إلى أن يكون الحزب، منذ اندلاع الحرب في لبنان في العام 1975، في جانب الحركة الوطنية ومنظمة التحرير. ولكن دخول النظام السوري إلى لبنان سهّل عملية الإنشقاق الكبير داخل الحزب في مرحلة الصراع بين حافظ الأسد وياسر عرفات، بحيث بات الحزب حزبين: حزب مع حافظ الأسد وحزب مع ياسر عرفات. منذ ذلك التاريخ سيبقى الحزب منقسماً فعليّاً بالإضافة إلى وجود طرف ثالث بقي على خط جورج عبد المسيح.

 

أسماء كثيرة مرت في سياق هذه المرحلة ولكن الأبرز فيها كان أسعد حردان. بدعم من النظام السوري استطاع حردان أن يستحكم بقيادة الحزب منذ اغتيال عميد الدفاع محمد سليم وعدد من القيادات القومية. واستطاع حردان أن يمسك الحزب بقوّة مستفيداً من هذا الدعم السوري ولذلك صار حاضراً في كل الحكومات التي كانت بعد العام 1990. ولكنّ تحكّم حردان بالحزب أدّى إلى نشوء حالة قومية رافضة له تتّهمه بأنّه أخذ الحزب وحوّله من حزب أنطون سعاده إلى حزب أسعد حردان. ولذلك صار هناك حزبيون خارج التنظيم الحزبي ولكنّهم لم ينجحوا في خلق حالة حزبية مستقلة. ما حصل في انتخابات 13 أيلول الحزبية شكل ما يشبه الإنقلاب على قيادة أسعد حردان. ولكن الأخير الرافض لأيّ تنازل عمّا بات يعتبره حقّاً مكرساً له نفّذ انقلاباً على الإنقلاب. ووضع الحزب السوري القومي الإجتماعي مرّة جديدة أمام تحدّي الإنقسام مستفيداً من تردّد القيادة المنتخبة. حاول أن يفرض خياراته على القيادة الحزبية الجديدة وأن يمنعها من أن تحكم من خلال تحكّمه بما سمّي قرار الكتلة النيابية القومية، وهذا ما أعطاه نقطة متقدمة علّ معارضيه الذين يحتاجون إلى جرأة أكبر في الخروج من دائرة سيطرة حردان على القرار الحزبي، حتى من خارج موقعه كرئيس للحزب. ولكن حتى لا تبقى مسألة القيادة الحزبية مجرّد صراع على السلطة ربما من الواجب أن تجري القيادة الجديدة، إذا كانت مؤهّلة لذلك، مراجعة لكل مسيرة الحزب لتخرجه من السياق الذي سار عليه منذ السبعينات، على الرغم من كلّ الضعف الذي بات يعيش فيه هذا الحزب على كلّ المستويات ودخول “الزوبعة” في الفنجان.