IMLebanon

الحرب السورية .. والإرهاق اللبناني!

 

مكابرتان. واحدة تتعلّق بالتأخّر عن الإقرار بالمسار الذي تدحرجت تبعاً له الأمور في سوريا، بما أدى الى فشل قطْع الطريق أمام خيار التغيير الثوري لطبيعة النظام الحاكم وأركانه فيها، والانتقال من سنوات تقلّص الرقعة التي يسيطر عليها النظام الى سنوات تقلّص الرقعة التي تحوي الفصائل المسلحة المتحاربة معه. وثانية تتعلّق بالمكابرة على أن تناقضات الحرب وتحدياتها لا يمكن ان تكون في اي بلد مشابهة لتناقضات السلم وتحدياته، وان تحديات الانتقال من حال الحرب الى حال السلم ليست ابداً بنزهة مضمونة لنظام وجد في الحرب صورته وضالته أكثر من أي شيء آخر، لكنه نظام بات أكثر ارتباطاً بما لا يقاس، بالنفوذين الايراني والروسي، من مرحلة ما قبل حلولهما بهذا الشكل على الارض السورية، إنقاذاً له، واستفادة من تناقضات أخصامه، بل من كارثية بعض من احتسبوا في عداد أخصام هذا النظام، وهم مُعادون بشكل ايديولوجي مُطلق لكل مفاهيم الديموقراطية والتحرر.

 

التنكّر لانتفاضات الشعوب العربية لعام 2011 كارثة ذهنية ومعرفية بكل المقاييس. لكن المكابرة على فشلها لا يُجدي نفعاً، بل هو ضار ايضاً. هذا ينطبق على سوريا وعلى غير سوريا. لكن المختلف سورياً، هو ان فشل الثورة التحررية من الاستبداد فيها له ثمن مختلف عن فشلها في اي مجتمع عربي آخر. انتصار “حرب المستبدّين” في سوريا شيء، وإعادة بناء “سلام المستبدّين” في سوريا شيء آخر تماماً. بل أكثر، حتى في صفوف البيئات والقوى التي انحازت، إما منذ البدء، وإما لاحقاً، الى صف النظام، في المواجهة الاهلية الشاملة، ثمة أشكال مختلفة من الإدراك بأن المرحلة الآتية لا يمكن ان تُدار بالأدوات الماضية والحالية. طبعاً، هذا الإدراك لا يكفل لوحده تطوير موقف سياسي مبنيّ عليه، لكنه حالة شعورية غير هامشية ابداً.

 

لبنانياً، ثمة جديد يفترض إدخاله على الخطاب السياسي حين يتعلّق الامر بسوريا. لقد انقسم اللبنانيون حول الموقف من نظامها منذ فترة طويلة، وحول الموقف من الوصاية السورية على لبنان كذلك انقسموا، وعلى خلفية ما بعد انسحابها ومسلسل العنف والاغتيالات في اثر ذلك انقسموا أكثر فأكثر، وانقسموا بطبيعة الحال مع اندلاع الانتفاضات الشعبية فيها، واستفحل الامر مع تدخّل قسم من اللبنانيين لمؤازرة قوات النظام داخل سوريا، وينقسمون، ولو بشكل مختلف، حول الخطاب الواجب اعتماده، والسياسات المفترض تبنّيها، حيال موضوع اللاجئين، وبطبيعة الحال سينقسمون حول مسألة عودة سوريا – النظام الى العمل العربي المشترك، كما لو ان شيئاً لم يكن، مع ان لبنان لم تنقطع فيه العلاقات الديبلوماسية مع سوريا طيلة سنوات الحرب، وهي في الاصل مطلب قوى 14 آذار، وكانت تعارضه قوى 8 آذار، ومطلب مُسند بقرار دولي. وبالمقابل، التزم مسؤولون لبنانيون لهم صداقات قديمة ومستمرة مع هذا النظام بعدم “التطبيع الكافي” معه، وللمفارقة، في الوقت نفسه الذين يواخذون اخصام النظام السوري في لبنان بأنهم ليسوا مستعجلين لمثل هذا التطبيع، ومن الطرائف ان “اعادة اعمار سوريا” يحركها انصار النظام في لبنان كما لو انهم هم من يتحكم تماماً بها، كما لو انه بالمستطاع الفصل بين اعادة الإعمار في سوريا، واعادة السلم، وبين اعادة السلم وبين عودة اللاجئين، وفتح الطريق للمشروع السياسي المتعلّق بما بعد الحرب، وما بعد نظام الحرب القائم حالياً في سوريا.

 

ثمة قيم انسانية كونية اساسية، وروابط جوار ناهيك عن الرابطة العربية الشاملة، ومصالح لبنانية، كلها ينبغي ان تجتمع لاعادة مقاربة الملف اللبناني – السوري، المتأزم قبل الثورة والحرب في سوريا بعقود، والمتأزم أكثر فأكثر في السنوات الاخيرة. ثمة في المقابل انقسام لبناني ـ لبناني حول سوريا لا يمكن الحد منه الا بالتشديد في الوقت نفسه على ثلاثية القيم، والروابط، والمصالح، في الاختلاف بين كل واحدة من هذه الصعد، وبالتشابك في ما بينها لتشكيل الصورة الاجمالية.

 

ليس من مصلحة لبنان إغفال القيم الانسانية حيال نظام في بلد مجاور استخدم الاسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة والتهجير الممنهج، كما إغفالها حيال فصائل متطرفة أرادت منافسة النظام تدميرياً.

 

ليس من مصلحة لبنان في الوقت نفسه التأخر عن أي متابعة لما يجري في الاقليم وبالذات في سوريا، وخصوصاً بالنسبة إلى احتمالات الانتقال من حال الحرب باتجاه حال السلم، والكيفية التي يتعامل معها مختلف الاطراف مع هذا الزمن الانتقالي، والغامض الى حد ما، في سوريا اليوم. الإيحاء بأنه ليس بزمن انتقالي، بل زمن عودة الى الوراء، الى نظام بعثي باق ويتمدد، وهو الإيحاء الذي يستهوي بعضاً من اصدقاء هذا النظام في لبنان، ليس له حيثية قابلة للانتشار. هذه مكابرة، كما ان إغفال النتائج الوخيمة للحرب السورية ايضاً مكابرة.

 

لكن ماذا عن الزمن اللبناني؟ هل هو زمن انتقالي ايضاً؟ أو زمن مراوحة؟ أو هو مقدّر على الزمن السوري؟ حتى الآن، لبنان، البلد نفسه الذي نجح في السنوات الاخيرة بعدم تمدد الحريق السوري اليه، رغم انقسامه حول هذا الحريق، هو بلد “تعب” بهذه الحرب كما لو انها جرت كل هذه السنوات ايضاً على أرضه.