IMLebanon

السوريون بين مطرقة الأسد وسندان «داعش»

أخبرني سياسي لبناني عن سياسي سوري أنه قال: «والدة الرئيس السوري بشار الأسد بعد السنة الأولى من الحرب قالت لتشد من أزره وتهيل التراب على ضميره: (عندما تسلمنا الحكم في سوريا لم يكن فيها أكثر من 7 إلى 8 ملايين نسمة، ويمكن أن تعود إلى ذلك العدد، فلا ترتجف أوصالك)».

يراهن كثيرون على أن الأسد باق؛ روسيا متمسكة به، إيران على استعداد أن ترهن كل سيادتها مقابل بقائه، بعض الأوروبيين يبرر: يبقى كي نقاتل تنظيم «داعش» معا، أصوات أميركية تحذر من وصول «داعش» إلى الحكم إذا ما رحل الأسد.

لا يسيطر الأسد على أكثر من 22 في المائة من الأراضي السورية، وإن هذه المساحة كما يقولون «ذات كثافة سكانية»، إذا راقبنا وتابعنا زوارق الموت والأسلاك الشائكة والجدران التي ترتفع حول حدود الدول الأوروبية، فسوف نرى جثثا لسوريين، نرى رؤوسا لأطفال سوريين تطل من بين الأسلاك الشائكة كلها هاربة من الأسد و«داعش» والبقية.

في لبنان أكثر من مليوني لاجئ سوري، في الأردن مليون ونصف المليون، في تركيا نحو المليون، داخل سوريا أكثر من 10 ملايين مهجر، في البحار وأنفاق القطارات سوريون. يبدو أن العدد المتبقي في سوريا صار يقترب من الرقم الذي كان عندما تسلمت عائلة الأسد الحكم هناك. ويتحدثون، عندما يتحدثون عن النظام السوري، أنه من فريق الممانعة والمقاومة، وتشد إيران من أزره ويتدرب حزب الله في المناطق السورية، ويموت شباب لبنانيون، ويذهب كبار رجال الحزب إلى المآتم ويتحدثون عن «الذي مات وهو يجاهد». لكن هل الجهاد هو لطرد أبناء البلاد الأصليين؟ في إحدى خطبه الأخيرة قال الأسد: «ليس من الضروري أن تكون سوريًا لتدافع عن سوريا». للأسف سوريا كانت ولم تعد.

استفاقت أوروبا على أكبر مأساة للاجئين تواجهها بعد الحرب العالمية الثانية. هناك غير السوريين بين اللاجئين، لكن الأغلبية سوريون. على من سيبقى رئيسا إذا ما بقي بشار الأسد؟ وماذا ينفع الإنسان إذا ربح العالم كله وخسر نفسه؟ ماذا ينفع الرئيس الأسد إذا سمع التصفيق له من بعض لبنان ومن كل إيران، وهو يرى معالم بلاده تتهاوى، والشعب السوري ينتظر الوصول إلى حدود أي دولة؟ المؤلم أن السوري تستقبله على الحدود الألمانية لافتة تقول: «السلام عليكم».. «أهلا وسهلا»، لكن عندما يغادر سوريا لا يودعه أب ولا تلوح له أخت أو أم.

كبرنا على شعر الشريف الرضي:

تلفتت عيني فمذ خفيت

عنها الطلول تلفت القلب

وشعر أبي تمام:

كم منزل في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبدا لأول منزل

قالت سيدة سورية وهي تتسلم وجبات الغذاء لأطفالها وثيابا مستعملة وتقيم وزوجها معهم في غرفة بمجمع للاجئين في ألمانيا: «الماضي تدمر.. لن ننظر إليه بعد، أما المستقبل فصار أمامنا.. كلنا سنتعلم الألمانية لأنها المستقبل».

في لبنان، تدرب النظام السوري على الهدم والقتل والنفي.. لا البيوت تعني له شيئًا ولا الشعوب، أخاف المسيحيين في سوريا بأنه حاميهم، فكانت معركة «معلولا»؛ حيث دُمرت كل آثارهم وأديرتهم وكنائسهم، العالم المهتم بالآثار ظهر مفجوعا أمام تدمير آثار الموصل، فليبكِ إذن على تدمر.

يعرف النظام السوري كيف يُبكي شعبه ويفجع العالم. وبكل عنجهية، يقول الأسد في حديثه الأخير إلى تلفزيون «المنار» التابع لحزب الله: «حدث هذا في لبنان عندما تعامل لبنانيون مع أطراف خارجية فدمروا البلاد»، ألم يكن نظامه طرفا خارجيا في لبنان وبسببه هاجر كثير من اللبنانيين؟ ألا يتعامل هو ضد شعبه مع دول خارجية وتنظيمات؟ ماذا تفعل إيران في سوريا؟ ماذا يفعل الموقف الروسي في سوريا؟ ماذا يفعل حزب الله في سوريا؟ ماذا تفعل «عصائب أهل الحق» في سوريا؟ ماذا تفعل الميليشيات الإيرانية – العراقية – الأفغانية في سوريا؟ وماذا عنه هو عندما يقول: «ليس من الضروري أن تكون سوريا لتدافع عن نظامي»!

تقول امرأة بريطانية على شاطئ يوناني إنها لن تنسى عجوزا طالعة من البحر، قدمت لها طفلة في الثالثة من العمر وطفلاً في الأشهر الأولى، ورجتْها أن تأخذهما، فقد ماتت ابنتها (الأم) وزوجها في سوريا، وبقي الطفلان أمانة في عنق الجدة.

في قصيدتها المعلقة داخل تمثال «الحرية» الممتشق في نيويورك كتبت إيما لازاروس في قصيدتها «العملاق الجديد»:

«امرأة قوية مع شعلة (…) أم المنفيين تقول: «أعطوني المتعبين، فقراءكم، جماهيركم المتجمعة تتوق للتنفس بحرية (…) أرسلوا هؤلاء الذين لا مأوى لهم، لتدفعهم العاصفة نحوي.. أنا أرفع مصباحي بجانب الباب الذهبي».

ليس صحيحًا أن الخيار واحد من اثنين: إما بقاء الأسد، أو وصول «داعش». قررت الدول القتال في سوريا. قرر العالم غض النظر، لكن بقي الأمل يدفع السوريين إلى ركوب غمار الذل والجوع والأسلاك الشائكة والكلاب البوليسية والعيش أو الموت تحت رحمة مهربي البشر، يشدهم ضوء في نهاية نفق ما، فضلوا التعلق بنار الأمل على جنة الأسد من الممانعة والمقاومة. قتل النظام المئات من المدنيين في «دوما» الأسبوع الماضي، ثم قال مراسل إحدى القنوات الموالية له: «استشهاد شخصين وإصابة أربعة في سقوط قذيفتي هاون على دمشق». نحزن على الشخصين ونحزن لمجرد سقوط قذيفة على دمشق، لكن متى يحزن النظام؟ فضل السوريون الخطر على جنة «الاستشهاد» على يد النظام تماما كما فضل الكبير خالد الأسعد التاريخ على الجنة التي وعده بها «داعش». رجل في الثالثة والثمانين من العمر بعلمه ووقاره وكل «تدمر» في قلبه، قزّم «داعش».. تحداهم فعلقوا جثته بالمقلوب ووضعوا رأسه تحتها، وكتبوا: «شارك في مؤتمرات الكفرة وخدم مديرا للوثنية».

يقول اللاجئ السوري الذي وصل إلى أبواب برلين: «كلنا هنا واحد، المسلم والمسيحي.. الطفل والشاب.. كلنا بشر نبحث عن كرامتنا، وعن الحرية، وعن تعليم أولادنا. لم يعد ممكنا العيش في سوريا».

يموت اللاجئون يوميا، 71 وجدت جثثهم في شاحنة على قارعة طريق في النمسا قرب الحدود الهنغارية، وكأنهم في رواية غسان كنفاني «رجال تحت الشمس». «زوارة» في ليبيا تحولت إلى نقطة تجمع للاجئين. ينتظر مهربو البشر (من كل الميليشيات) الليل ليقبضوا على كل «موت مستقبلي» ألف دولار. غرق مائتان في ليلة واحدة. على الشواطئ التركية واليونانية لفظ البحر سترات الإنقاذ وأحذيتهم، وابتلعهم. السويديون اكتشفوا الجثث فشعروا بآلام الضمير، أهالي «زوارة» تظاهروا ضد المهربين. ويستمر الأسد في إلقاء الخطب وإعطاء المقابلات وفي استقبال المسؤولين الإيرانيين يشدون على يديه مهنئين بطول بقائه، لا وقت لديه ليتابع نشرات الأخبار غير السورية. لا وقت لديه ليسأل عن شعبه. عندما بدأ الضباط السوريون بالهرب إلى الخارج، رد الأسد بأنه لا يريد في الجيش من لا يكون مطلق الولاء، لكن ماذا عن الشعب؟ تحول المتوسط إلى وحش يبتلع اللاجئين.. يقول أحد جنود خفر السواحل السويديين: «نبذل جهدنا لإنقاذ كل لاجئ»، ولسان الأسد: يبذل جهده لإنقاذ نظام من دون شعب.

لا حل سهلا لمشكلة اللاجئين، هناك طلب كبير من المهربين لأعداد ضخمة من اللاجئين، والنظام السوري لن يبخل عليهم.

تقول غادة خالد إنها وأولادها وزوجها تركوا سوريا في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وعبروا ست دول، وأملهم الحصول على إذن عمل في ألمانيا». ويقول أيمن من مصر: «في ألمانيا لدي أمل بتغيير نمط حياتي.. في بلادي لا أمل لي». يقول الليبيون: «ساعدت أميركا والناتو وأوروبا الشعب الليبي ليتخلص من القذافي، لكن لم يمدوا يد المساعدة بعد ذلك لإنقاذ ليبيا وسمعتها».

نهاية الصيف تقترب، وسوف تكبر المأساة. السوريون يريدون من العالم إيجاد حل وفرضه على سوريا.. «هذه المأساة لا يمكن أن تستمر». لم ينطلق صوت تنديد أو صرخة مواساة من كثير من الدول العربية. الأوروبيون غاضبون من الطبقات السياسية لديهم «التي لا تحافظ على كرامة اللاجئين».. كرامة يتحدث عنها مطولا الأسد في خطبه المطولة والمملة ومقابلاته. لقد رمى بشعبه على الدول الأوروبية، أما بالنسبة إلى «داعش» فدول «الكفار» تستقبل وتؤوي وتطعم الهاربين من ناره.

الحل ليس بمجيء مزيد من اللاجئين إلى أوروبا، بل أن يعرف العالم كيف يتعامل مع الأنظمة الديكتاتورية، التي بسبب هذا العالم حولت شعوبها إلى لاجئين يركبون الموت هربًا من ظلمها ويشحذون على أبواب دول أخرى.