تغيّر لبنانُ فدَرَيْنا، لكنْ من دونِ أن ندريَ تَغيّر النظامُ اللبنانيُّ أيضاً. ومنذ انتهاءِ الشغورِ الرئاسيّ، اختفَت المطالبةُ بمؤتمرٍ تأسيسيّ. حصلَ التغييرُ بكُلفةٍ أقل، بلا إثارةِ الانتباه وبلا تعديلِ دستور. تُركَ النظامُ خِرْبةً، وعلى أطلالِه شُيِّد نظامٌ رديف. وملابساتُ استقالةِ رئيسِ الحكومةِ، مَساراً وشكلاً ومضموناً، آخِرُ تَجلِّياتِه.
كلُّ شيءٍ تغيّرَ مع أنَّ كلَّ شيءٍ لا يزالُ على حالِه: الحدودُ الدوليّةُ ثابتةٌ لكنّها سائبةٌ شرقاً وشمالاً ومعدَّلةٌ جَنوباً. النشيدُ الوطنّي هو نفسُه لكنَّ الأجيالَ الجديدةَ ما عادت تَحفَظُه وتُردّدُه. العَلمُ اللبنانيّ احتفَظ بألوانِه لكنّه أقلُ عَلمٍ يُرفرفُ في ربوعِنا. الديمقراطيّةُ راسخةٌ لكن صَدأً اعتَراها من قِلّة الممارسةِ الصحيحة. الدستورُ صامدٌ لكنَّ تطبيقَه استنسابيٌّ وتفسيرَه اعتباطيّ.
السلُطاتُ قائمةٌ لكنَّ الفصلَ بينَها مَزاجيّ. القضاءُ يُصدِر الأحكامَ لكنَّ تنفيذَ أحكامِه رهنُ القرارِ السياسيّ. المؤسّساتُ مستمرّةٌ لكنّها تحولّت إقطاعياتٍ طائفيّةً وكانتوناتٍ سياسيّةً.
الإدارةُ ناشطةٌ لكنّها أصبَحت شركةَ توظيفِ «المحاسيب». الجيشُ جاهزٌ وقويّ لكنَّ هناكَ من يَستضعِفُه ليشاركَه السلاح. حتى أنَّ الشمسَ والقمرَ يُطِلّان يوميّاً لكن على ناسٍ مختلِفين وطبيعةٍ لبنانيّةٍ أخرى.
هذه المسمَّياتُ، وهي عناصرُ تكوينِ الدولةِ ورموزُها، تحولّت غَطاءً لا مرجِعيّةً. باسمِها يُمارَسُ الحكمُ خِلافاً لمعاييرِها ويُعيَّشُ الشعبُ خلافاً لقيَمِها، ومِن وجودِها الحيِّ يُخترعُ نظامٌ افتراضيٌّ يُدير الأحياءَ الباقين. حوّلت الدولةُ نفسَها من دولةِ الشرعيّةِ إلى دولةِ الأمرِ الواقع، فيما حُلمُ قِوى الأمرِ الواقِع أن تصيرَ شرعيّةً.
هكذا الحالُ منذ عقودٍ ثلاثة، وإنْ تَفاقمَت في الآونةِ الأخيرة فَبِحكمِ واقعِ المجتمعِ اللبنانيِّ المنحدِر، وليس بسببِ سياسةِ عهدٍ.
المجتمعُ اللبنانيُّ ـ بكلِّ مكوّناتِه الطبقيّةِ والطائفيّةِ ـ انحطَّ، فأسقَط معه مميّزاتِ النظامِ اللبنانيّ، وقد كان نَموذجاً للديمقراطيّةِ البرلمانيّةِ التي آلَفَت بين التعدديّةِ الطائفيّةِ والتوقِ المدنيّ في المجتمعِ اللبنانيِّ، وبين تُراثِ الشرقِ وحداثةِ الغرب. النظامُ السابقُ كان يُشبِه اللبنانيّين السابقين، والنظامُ الجديدُ يُشبِه اللبنانيّين الحاليّين. الأجيالُ المخَضْرَمةُ تَشعُر بالفارقِ أكثرَ من الأجيالِ الجديدة.
مَن لَم يَسمع «الرَحابِنة» ولم يرَ «كرَكلّا» لا يَعرِفُ الفارقَ بينَهم وبين تُفهاءِ اللحنِ والغناءِ والرقصِ، ومَن لَم يَعرِف بيروتَ قبلَ الحربِ لا يَعرِف الفارقَ بين مدينةِ الأنوارِ ومدينةِ «الشِيشَة».
ومَن لَم يَعرِف الزعماءَ اللبنانيّين الكبارَ لا يَعرِف الفارقَ بين أشجارِ السِنديان ونَبْتةِ المصّاص. نظامُ لبنانَ الأساسيُّ خِرّيجُ علماءِ الدستورِ الفرنسيّين ونِتاجِ مفكِّرين وفلاسفةٍ لبنانيّين طبعوا الشرقَ بفكرِهم الحضاريِّ والقوميّ اللبنانيّ والعروبيّ والإسلاميّ.
أليس غريباً أن أتماهى مع أخصامِ الماضي أكثرَ من حلفاءِ الحاضر؟ الانتماءُ الحضاريُّ أقوى من الانتماءِ السياسيّ. إنَّ في لبنانَ اليومَ كانتوناً عابرَ المُحافظاتِ والطوائفِ والأحزاب هو كانتونُ طائفةِ الحضاريّين، إليه لَجأ لبنانُ الرسالة وأوْدَعه وثيقةَ قيمِه وصَكَّ وِحدتِه. لبنانيّون كثرٌ نَفروا من لبنانَ المُجَهَّلِ والمُزوَّر، وبَرزت «هِجرةٌ حضاريّةٌ» لا علاقةَ لها بالأمنِ والبطالةِ، بل بصعوبةِ التكيّفِ الحضاريِّ مع انحرافِ النظامِ وانحدارِ مستوى الرقيّ، فرَحل لبنانيّون نحو النظامِ العالميِّ يَبحثون عن واقعٍ يُشبِههم. هؤلاء لا يَبتَغونَ مالاً إنما حالاً.
لا يستوي نظامٌ في مجتمعٍ من دونِ نِدّيةٍ بين نوعيّةِ النظام ونوعيّةِ الشعب. ولا يَكمُن الحلُّ باعتمادِ المركزيّةِ واللامركزيّةِ والفيدراليّةِ او حتّى التقسيم، لأن الانحطاطَ هو عامٌّ على مستوى كلِّ الطوائفِ والمناطقِ في لبنانَ وإنْ بدرَجاتٍ متفاوتةٍ.
والأخطرُ هو على مستوى الشرائحِ الجامعيّةِ حيث العلمُ يَفتقِر إلى الثقافةِ والرقيّ ويَنحصِر بالمعرفةِ المهنيّةِ المحدودةِ والمتدنّيةِ. سُئل الفيلسوفُ «سولون» لدى انتخابِه رئيسَ قضاةِ أثينا سنةَ 594 ق.م: «ما أفضلُ دستورٍ؟» فأجاب: «لأيِّ شعب؟».
إنْ الديمقراطيّةَ حكمُ الشعبِ فالنظامُ هو صورةُ الشعب. وحين يتغيّرُ الشعبُ يَتغيّرُ النظامُ تلقائياً من دونِ تعديلٍ دستوريّ، إنما بتعديلٍ حضاريّ يَظهَر في الممارَسة. لذا، ليست المشكلةُ أساساً بالتعديلاتِ الدستوريّةِ وانتقالِ الصلاحيّات والموازينِ الطائفيّة التي نَتجت عن «اتّفاقِ الطائفِ» و«تفاهمِ الدوحة» ـ هذه خسائرُ سطحيةٌ وأرباحٌ مجازيّة ـ بل في التعديلاتِ الحضاريّةِ والثقافيّةِ والاخلاقيّة. الاختلالُ الحقيقيُّ هو حضاريٌّ لا طائفيٌّ.
والحلُّ يبدأ بإعادةِ الوزنِ الحضاريِّ للبنان لا بإعادةِ التوازنِ الطائفيّ إلى النظامِ فقط. فلبنانُ حالةٌ حضاريّةٌ قبل أن يكونَ حالةً دستوريّة. المشروعُ الحضاريُّ هو مَن ولّدَ الوطنَ اللبنانيَّ فالدستورَ وليس العَكس. والدليلُ أنَّ لبنانَ الذي تأسّس سنةَ 1920 وَضعَ دستورَه الأوَّل سنةَ 1926.
قبل الحروبِ الأخيرة، كلُّ القوى اللبنانيّةِ، رغم اختلافِ ولاءاتِها، جمعَتها الحضارة، واللِياقاتُ ضِمناً. يَختلفون في المجلسِ النيابيّ ويَلتقون في فندقِ «السان جورج»، يَتشاجرونَ في الحكومةِ ويَلتقون في مِهرجاناتِ بعلَبك، يَتنازعون على هَوى لبنان ويَلتقون عندَ بائعِ العطوراتِ في بابِ ادريس. يَتبارزون على صفحاتِ الجرائدِ صباحاً ويَلتقون في مطعمِ «العَجميِّ» في كَعبِ سوقِ «الطويلة» مساءً.
اليومَ، غابَت ساحاتُ اللقاء وبَقيت جبهاتُ القتال. اليومَ يَنتقلون من خطِّ تماسٍ سياسيٍّ إلى آخَرَ عسكريٍّ، ومن برنامجِ شتمٍ تلفزيونيٍّ إلى برنامجِ شِجارٍ إذاعيّ. لا هُدنةٌ أَخلاقيّة. فَقدَت الحياةُ السياسيّةُ عُروتَها الاجتماعيّةَ، أي نسيجَها الميثاقيّ.
كنا أبناءَ كتابٍ وثقافةٍ ورقيٍّ وريفٍ وتمدّنٍ وبساطةٍ، فكان النظامُ على قياسنا مُهفهفاً يَحترم الاستحقاقاتِ الدستوريّةَ وتداولَ السلطةِ وحقوقَ الناسِ وحُرمةَ الحريات، وكانت حسناتُه تفوق نواقصَه. صِرنا أبناءَ حروبٍ ووصايةٍ واحتلالٍ وسلاحٍ وقتالٍ وانغلاقٍ وعُقَدٍ وجَهالةٍ وانحطاطٍ أخلاقيٍّ وفكريٍّ وفنّيٍ وذَوْقيٍّ، فعكَسَ النظامُ آليّاً المُعطى المستجِدّ وأعادَ تفصيلَ قياسِه على قامتِنا المشوَّهة.
تخطّى الأمرُ الظرفَ المرحليَّ إلى حالِ شعبٍ تعرّض لهزيمةٍ في حضارتِه بفعلِ الحروبِ والاحتلالِ وتدنّي مستوى الطبقةِ السياسيّة. أصبح اللبنانيّون شعباً لا يَليقُ بنظامِه الأمِّ وبرسالتِه الأصيلة. ولم يأتِ مُلهَمٌ يَنهضُ بهم إلى حلمٍ بشيريٍّ آخَر، فعدّل النظامُ ذاتَه بذاتِه كما تُغيّر الفصولُ توقيتَ انبلاجِ الضوءِ وهبوطِ الظُلمة.