IMLebanon

يجب تغييــر النظــام

خروج الحكومة من مأزق خطة النفايات تطلّب مخاضاً طويلاً. ولا أحد يعلم إذا كانت قرارات الحكومة يوم الاثنين الماضي هي خاتمة الأزمة بالفعل، أم أن الجدل سوف يتجدّد بعد حين.

موضوع كان يُفترَض أن يكون عادياً ويمرّ من دون ضجيج، وأن يُعالَج بالشكل الأنسب للصحّة العامة والبيئة، من دون اعتبارات سياسية أو مناورات ومحاصصة، ولكنه استنفد كل جهود الحكومة في الأسابيع الأخيرة وأوصلها إلى حافة الهاوية.

ظاهرة لافتة، بل غريبة ومدهشة، ولكنها ليست وحيدة في واقعنا السياسي والوطني الراهن.

المرافق الحيوية المعطلة لا تُحصَى. النفايات والاتصالات والكهرباء والإدارة العامّة، والأمن.

النظام السياسي فشل، مرّة أخرى، في انتخاب رئيس للجمهورية، وعندما تسلم مجلس الوزراء صلاحيات الرئيس وقع في فخ الإجماع، فتعطّل وتعطّلت معه البلاد.

الحكومات تستعمل السياسات الاقتصادية والمالية لمجابهة أي تراجع اقتصادي واجتماعي. السياسة المالية، من خلال الموازنة وقوانين البرامج، هي أهمّ وسيلة بيد الدولة للتأثير في الاقتصاد وإعادة توزيع الثروة. لبنان هو البلد الوحيد في العالم الذي لا موازنة لديه منذ عشر سنوات. الدولة، إذاً، تفتقد الأداة الوحيدة والفعالة لتغيير المسار الاقتصادي، إذا سلك طريق التراجع والانحدار، كما هي الحال.

الانقسام السياسي يمنع اتخاذ القرارات البسيطة والضرورية لإدارة هذا المرفق أو ذاك. وإذا تجاوزت الدولة العقبات وتوصلت إلى قرار في شأن حيوي فلا مناص من إرضاء الجميع بواسطة المحاصصة. فلا يُعقل، والحالة هذه، أن نتوقع سياسات بعيدة المدى وخطة اقتصادية شاملة لمواجهة الوضع المتدهور.

في السنوات الأخيرة ارتفعت نسبة الدين إلى الناتج المحلي، وتبخر الفائض في الرصيد الأوّلي للموازنة، وتضخم عجز الموازنة كنسبة من حجم الاقتصاد. لقد هبط معدّل النموّ الاقتصادي هبوطاً مريعاً، وتراجعت الاستثمارات الخارجية إلى النصف، وتراجعت الحركة العقارية، وانكمش عدد السيّاح، وتوسّع عجز الميزان التجاري، وانقلب رصيد ميزان المدفوعات من ايجابي إلى سلبي، وخسر القطاع التجاري ثلث حجمه السابق.

برزت هذه التطوّرات في ظل أوضاع محلية وإقليمية خطيرة وتحت وطأة النزوح السوري، الذي ينوء به المجتمع اللبناني، والذي زاد في ارتفاع منسوب الفقر ومعدّل البطالة.

الخلاصة قاسية ولكنها صحيحة: إن الدولة التي تعجز عن وضع خطة لمواجهة هذا الواقع البالغ التردّي ولا تستطيع أن تتخذ قراراً واحداً لتصحيح المسار، هي دولة فاقدة مبرّر وجودها.

مَن يخرج مِن التفاصيل وينظر إلى المشكلة بخطوطها العريضة وحقائقها الرئيسة، تبرز أمامه حقيقة صادمة: إن النظام الذي أرسيت قواعده مباشرة بعد الحرب الأهلية هو على شفير السقوط. تمّ استيلاد نظام 1990 بديلاً من نظام سابق سقط وقاد البلاد إلى الحروب والفتن، لأنه قام على هيمنة لم تعد تتناسب مع الحقائق والموازين الجديدة، الداخلية والخارجية.

ولكن نظام تعدّد الرؤوس وتنوّع مراكز القرار سقط في وقت قياسي وبشكل أسرع من سابقه، انكشفت كل عيوبه يوم انزاحت عن البلاد «سلطة عنجر»، التي كانت حَكَماً غير نزيه بين القيادات والمؤسّسات. بدت الصورة على حقيقتها: النظام يعطل الدولة ويشل مؤسّساتها ويخضع الشؤون العامّة كلها للمناورات والصفقات والمساومات.

إنها حقاً لَمعضلة. البلد، بسبب تنوّعه الديني والمذهبي، لا يحتمل هيمنة فئة على فئة، أو طائفة على طائفة. بالمقابل، فإن فقدان الهيمنة لمصلحة تعدّد الرؤوس وتوازن القوى يعطل الدولة ويشلّ مرافقها ويجعلها عبئاً على المجتمع.

لقد فقدت الدولة المبادرة في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وتحوّلت مؤسّساتها الدستورية إلى مجرد جهاز لتقاسم المغانم.

إن النظام اللبناني الذي تأسس سنة 1990 قد فشل، بل انتهى، وكلما تأخر إعلان وفاته تزداد المخاطر والخسائر والأضرار. ومن الأفضل أن يبدأ التفكير بالصيغة الجديدة في وقت مبكر، حتى لا تصل الجمهورية الثالثة ولا تجد من ينتظرها، لا حجراً ولا بشراً.

قد نشهد عودة الحياة إلى أفكار المناطقية والفدرالية مشجَّعة بالطروحات المستجدة في البلدان العربية المجاورة. وربّ قائل إن خطة النفايات الصلبة هي نموذج ناجح للبنان الغد (…). ولكن أنصار الفدرالية يجب ألا يتقدّموا بطروحاتهم إلا وفي أيديهم أجوبة على الأسئلة الصعبة، وأهمّها، كيف يمكن تحقيق الفدرالية في لبنان من دون حرق البلد وتشريد سكانه، لتأسيس المناطق «النقية» وتحضيرها للنظام الفدرالي.