أخطر ما يُقلِق – أن النخب اللبنانية المسلمة عبر مراجعها الإقليمية غير قادرة على تفكير استراتيجي يخدم موقع المسيحيين اللبنانيين كـ”آخر” المسيحيين في المنطقة وبالتالي يخدم الكيان اللبناني “الكبير” الذي تستمتع به.
لم أكتب عن موضوع التمديد للمجلس النيابي في لبنان منذ بدأ الترويج للمشروع باعتبار أن الحجة الأساسية التي يستند عليها، وهي الصعوبة بل الاستحالة الأمنية لإجراء الانتخابات البرلمانية، هي محض حجة واهية جدا بل مكشوفة. فهذا النظام السياسي اللبناني الطائفي الذي يدير دولة ضعيفة جدا هو نظامٌ قويٌّ جدا وذو جذور وامتدادات شعبية راسخة أو أصبحت راسخة في تجمعات “المجتمع” اللبناني الأربعة المسيحية الدرزية الشيعية السُنّية.
لهذا فإن المعضلة العميقة التي جعلت وتجعل موقف معارضي هذا التمديد في “المجتمع المدني”، وهم بعض الشباب والشابات الأوادم المتعلّمين الهامشيّين، بلا جدوى بل حتى تجعله موقفا عبثياً، هو أن عدم التمديد، أي إجراء الانتخابات، لا يغيّر شيئاً جوهريا في تركيبة المجلس لاسيما عند الشيعة والدروز والسُنّة سوى بعض الأسماء التي يمكن أن يغيّرها رؤساء اللوائح النافذون وهذه محدودة وباتت تشبه التشكيلات في “الوظائف” أكثر مما تشبه الانتخاب ولو في شكلٍ “انتخابي”.
وحدها البيئة المسيحيّة وتحديدا في جبل لبنان والشمال المسيحي، على أساس النظام الانتخابي الحالي، قادرة على أن تحمل مفاجآتٍ “مخيفة” للقوى المسيحية ولكن أيضاً هي ضمن صراع النفوذ ولن تفرز مطلقا قوى جديدة.
لذلك ولأن الانتخابات الحقيقية تجري فقط في البيئة المسيحية بسبب وجود تنافس فعلي، المؤيدون المسيحيّون للتمديد تحت حجة الصعوبة الأمنية في إجرائها هم الأكثر مناورةً هذه المرة لأن بيئتهم هي بيئة صراع فعلي وليس صراعاً محسوماً أو مكتوماً كما هي الحالات، السنية عموماً، الشيعية الدرزية.
دعونا نواجه الكذبة المكشوفة:
أين لا يمكن للقوى المسيطرة أن تضمن الأمن الانتخابي؟
لا مكان خارج سيطرة قوى النظام حين تُقرّر الضبط في الشمال والبقاع والجنوب فكيف في المناطق الهادئة جدا الأخرى في الجنوب والجبل والساحل وستكون مساهمات النظام السوري و”جبهة النصرة” و”داعش” عندما يلزم الأمر (الإقليمي) شديدة الإيجابية والتعاون في مسار هادئ وديموقراطي للانتخابات!
الذي لا نعرفه جزئيا هو كيف سيقترع الناخب المسيحي في الجبل وبعض الشمال وبيروت لكن السؤال محصورٌ هنا في التالي تحديداً: هل سيؤدي التصويت إلى زيادة قوة “التيار الوطني الحر” في ظل المخاوف المسيحية اللبنانية الشديدة في المنطقة ولبنان وحليفه ” المردة”؟ ليس أكثر.
في التشكيلات “الإدارية” داخل اللوائح المحسومة (نظريات الـ 99 بالماية عند الشيعة! والـ 70 بالماية عند الدروز والسُنّة (وهي كلها نظريات يمكن أن تصبح أمنيةً في أي لحظة أي ما أسمّيه السقوط العسكري لصناديق الاقتراع)… في اللوائح المحسومة هناك بعض الأسماء غير محسومة ولكنها طبعا ضمن التوازنات لا خارجها أي أنها قطعاً لن تأتي بمستقلّين.
لكل هذا فالموقف ضد التمديد في “المجتمع المدني” عبثيٌّ لأن التمديد مثل عدمه! المشكلة الجادة، إذا كان “المدنيّون” يريدون بحثها، هي لماذا هذا النظام يزداد شعبية ورسوخا في الطوائف؟ النظام القوي جدا البارع (مع مراجعه الإقليمية) في إدارة دولة ضعيفة بل تافهة.
لماذا إذن لا يريد أقطاب النظام إجراء انتخابات يضمنون نتائجها؟!
أظن أن معظم القوى، كل “المحمّديّين” وبعض المسيحيين (؟)، مرتاحون إلى التوازن العددي البرلماني الحالي ويعتبرون ضمنا، بالنسبة للطائفيات المسلمة الثلاث أن انتخاباتٍ جديدةً هي هدرٌ للوقت والمال ولا تقدّم أي جديد يحتاجونه فهي لن تحصل على أكثر مما هي عليه نوعاً وتتجنّب في الوقت نفسه مشاكل مالية وشخصية بالإمكان تأجيلها ولو كانت تحت السيطرة. يبدو من وجهة نظر مرجعيات هذه الطائفيات أنه لا اقتصاد لهذه الانتخابات ولا ضرورة سياسية في الصراع العام الداخلي والخارجي. أما بالنسبة لبعض القوى المسيحية، حيث الانتخابات فعلية في دوائرها ذات الأكثرية، هناك مجازفة مالية وسياسية وشخصية.
النظام القوي في لحظة كسل وبُخل ولذلك قرّر التمديد. إجراء الانتخابات لم يكن ليهدّد سيطرة القوى الأساسية بل كان سيولِّد بعض المتاعب المالية والشخصية عند الأحزاب الأساسية في البيئة المحمدية ويفتح على احتمالات توازنات معدّلة في البيئة المسيحية لا حاجة لها إقليميا.
المشهد السياسي الانتخابي اللبناني عند المسلمين “بعثي سوري” (الحزب القائد) وعند المسيحيين كردي أو شيعي عراقي (أحزاب رئيسية) وربما يصبح تركيّاً!
لكن أخطر ما يُقلِق – وهو صراخ في البريّة- أن النخب اللبنانية المسلمة المسيطرة على الصراع السياسي عبر مراجعها الإقليمية غير قادرة نوعيا على تفكير استراتيجي يخدم موقع المسيحيين اللبنانيين كـ”آخر” المسيحيين في المنطقة بالمعنى السياسي للكلمة أي ككتلة سياسية وكإحدى آخر الكتلتين الديموغرافيّتين المسيحيّتين الوازنتين اجتماعيا وثقافيا مع أقباط مصر. استراتيجية بتنا جميعاً نعرف بالتجربة أنها إذا لم تحافظ على الديناميكية المسيحية المتعدّدة فإنما لبنان نفسه كفكرة وكيان هما إلى المزيد من الانحطاط. قوى الإقليم النافذة في وارد آخر. والأنكى أنه لم يصدر عن النخب السياسية المسيحية اللبنانية ما ينم عن “حالة الطوارئ” الوجودية هذه غير بعض الأصوات، وليس الأفعال، التي تعلو محذّرة.
أما الإصلاحيون اللبنانيون، وهم قشرة شبابية محترمة وغير فعالة على سطح العاصمة بيروت، فموقفهم العبثي متفاقم إنْ لم يكنْ مغلقاً: من جهة هم ضد النظام الطائفي المتخلّف بالمعايير الغربية للحياة السياسية ومن جهة مقابلة فإن المطالبة بتغيير النظام تُعتبر تهديدا للكتلة التي لا تزال قلب بل ضمان الحداثة الاجتماعية والثقافية اللبنانية وهي الكتلة المسيحية.
ما أدعو إليه هنا ربما هو أيضاً “عبثي”: رؤيا أخرى للمدرسة الإصلاحية العلمانية للنظام تحفظ التميّز المسيحي!؟ في زمن الانهيارات الكبرى في المنطقة العربية أي في زمن انهيار العالم العربي ومعاقبته لنفسه.