في اليوم الحادي والعشرين على تحرك غالبية الشعب اللبناني الذي تحوّل ثورة، وفي وقت لا تزال طريق الاستشارات النيابية الملزمة لتكليف رئيس لتشكيل الحكومة مقطوعة في بعبدا، فيما غالبية الطرق جرى فتحها، تسهيلاً، ربما، لوصول النواب للقصر الجمهوري؛ تبدو السلطة بلا تصورات واضحة وجدية لمواجهة ما يجري سوى تلبّس حالة الإنكار ومنطق الهروب إلى الأمام، ويبدو الشارع، في المقابل، مكتمل الحيوية والمبادرة، خصوصاً وأنه يراكم الانجازات، وآخرها بعد استقالة الحكومة إجبار شركتي الخلوي على الفوترة بالعملة الوطنية (أسوة بدول العالم كله) للبطاقات مسبقة الدفع وفواتير الخطوط الخلوية الثابتة.
وسط هذه الصورة، يحتفل لبنان هذه الأيام، بالذكرى الثلاثين لتوقيع اتفاق الطائف (5 تشرين الثاني 1989) وما انبثق عنه من تعديلات دستورية واجبة الاحترام، هَدفت لنقله حينها من حالة الإقتتال إلى حالات السلم وإعادة بناء الدولة وترميم الحياة الوطنية مما تعرضت له جرّاء الحرب الأهلية.
والذكرى في هذه اللحظة التاريخية مدعاة للتأمل من أمرين اثنين: التعمد المبالغ به لتهميش الطائف من خلال الاستنسابية بتطبيق بنوده، أو التنكر له لتكريس منطق تحالف ثنائية الفساد والسلاح كأمر واقع فوق الدستور والطائف والأعراف. أما الأمر الثاني، فهو البعد العربي لأزمة لبنان الراهنة، خصوصاً وأن السعودية كانت الراعية للاتفاق الذي أنهى الحرب، ولو نظرياً، والمسّ به خطوة متهورة تحمل مخاطر أكيدة.
الطائف: الدستور المظلوم
في الأمر الأول، قيل الكثير، وسيقال المزيد عن أن عهد الرئيس ميشال عون بات مثقلاً بممارسات قريبين منه تخالف الدستور، نصاً وروحاً، وتتقصّد التعدي على الصلاحيات الدستورية لرئيس الحكومة (الذي هو رئيس السلطة التنفيذية)، ليس آخرها تأخير تحديد موعد للاستشارات النيابية في لحظة وطنية حساسة، وبدع التشاور قبل الاستشارات أو ما سمّي سابقاً «المعايير الموحدة»، وقبل ذلك، بدعة الحكومات التوافقية التي أرستها تسوية الدوحة في العام 2008.. وكلها تصبّ في إطار العمل وفق منطق شعبوي، كيدي يستقوي بقوى الأمر الواقع لخلق أعراف جديدة تشكل جميعها طعنة للدستور وللحياة الديموقراطية.
عتبٌ أو خيبة أمل
في المسألة الثانية، لا بدّ من التأكيد أن التزام لبنان بالشرعية العربية، إلى جانب الشرعيتين الوطنية والدولية، شرطٌ لاستمرار وثبات مظلة الدعم والرعاية والمساعدة لتخطي المخاطر، الاقتصادية أو المالية، وبشكل أكيد مواجهة آثار العقوبات الدولية. إن تصدّع أي من هذه الشرعيات تحت أي ظرف أو غاية يرتّب أعباء وتداعيات ليست في مصلحة هذا البلد الذي يعيش ظروفاً صعبة ومعقدة. إن مراجعة سريعة لكثير من المواقف التي اتخذت من لبنان منصّة للتصويب على دول عربية، تكشف أنها تركت ندوباً في علاقات بيروت مع الاشقاء العرب، وخصوصاً السعودية التي سبق أن رفعت حظر سفر رعاياها إلى لبنان كبادرة تضاف إلى خطوات كثيرة لتأكيد دعم لبنان.
إذا سلمنا، وسلّم معنا العربُ والعالمُ بصعوبة الأوضاع في لبنان، فلا بدّ من التفكير إذن باستنقاذ ما يمكن انقاذه من الدولة ومؤسساتها، ولا بد أيضاً من الاستثمار بالمستقبل؛ مستقبل السلم الأهلي، والأمن والاستقرار، وانتظام المؤسسات والحكم الرشيد، والعلاقة الحسنة بين النظام والشعب، وبين النظام وأشقائه وأصدقائه، وكل ذلك هَدفَ إليه الطائف بشكل واضح وصريح. لا اللبنانيين المخلصين ولا العرب يقبلون باستنزاف البلد حتى نقطة الفشل والإفلاس والانزلاق نحو المجهول.
لم تقصّر السعودية (راعية اتفاق الطائف) عبر تاريخ طويل، ومعها والكويت والإمارات وغيرهم في حرصهم على لبنان الدولة والشعب، بشتى السبل، بالفعل لا الكلام، والبذل لا التحريض، وباستضافة مئات الآلاف للعمل والكسب، وإعادة الإعمار بعد الحرب الأهلية وبعد حرب تموز 2006، وهم يعتبرون ذلك ليس وقوفاً أخلاقياً وأخوياً مع بلد يعاني مشكلات مستعصية فحسب، بل دعماً للأمن للإقليمي العربي بمعناه الاستراتيجي الواسع. وكما ساعد العربُ لبنانَ سابقاً، يمكن أن يساعدوه ثانية وثالثة ورابعة على تجاوز الأزمات والمضي نحو التطوير والتنمية وإطفاء الديون، ليس العرب فقط بل الأوروبيون وكل المجتمع الدولي، لكن الأمر – بحسب هؤلاء جميعاً – مرهون بالإصلاح ومحاربة الفساد، بصدق وشفافية وجدية واستمرار، وانتهاج العقلانية والابتعاد عن المكابرة والشعبوية في مقاربة الأمور الداخلية والخارجية، والأهم أن لا يكون لبنان منطلقاً لتوجيه سهام الاستهداف، السياسي والأمني، أو التصادم مع الشرعية العربية أو الدولية.
الثورة وتصحيح البوصلة
بالتوازي، يَشي أداء السلطة بعكس كل أو أغلب ما ذكر. فالدولة تُحكم بأسلوب التحدي، والفساد المقونن، والهدر المنفلت، ويجري تشكيل الحكومات وفق منطق محاصصة مفضوح وليس وفق منطق مواجهة التحديات، زدّ على ذلك ظلال السلاح غير الشرعي الذي يتحّكم بالمفاصل الرئيسية للدولة وقرارها.. وكل ذلك لا يبعث على الثقة لا عند العرب ولا لدى المجتمع الدولي. فما المعنى من وصف مرشد الثورة في إيران علي خامنئي لثورة شباب لبنان (والعراق) بأنها «أعمال شغب تسببت بها أميركا والكيان الصهيوني ودول غربية بأموال دول رجعية»؟ ولماذا يكون على السعودية والخليجيين، والعرب عموماً، مساعدة لبنان سياسياً ومالياً في وقت يتضح أن صبرَ الفرنسيين والأميركيين قد نفذ إزاء سياسات اللعب على الكلام، والتملّص من الالتزامات، والوعود غير الصادقة بالإصلاح والحكم الرشيد؟
إن مشكلة النظام في لبنان مكونة من طبقات عدة، وواحدة من طبقاتها سوء إدارة العلاقة بالعرب الذين ما أخطأوا يوما مع بلاد الأرز، وطبقة أخرى بأن ثمة منطقاً غرائزياً طائفياً قائم ومتحكّم ويتصدّر المشهد. وهذا المنطق البغيض يناقض الدستور واتفاق الطائف والعيش الواحد، بل ويتجاوز كونه مصالح براغماتية انتهازية ضيقة إلى كونه سياسة استراتيجية تعكس خطابا ومشروعاً ورؤية لمحاور إقليمية تهدد أمن لبنان، وتجعل منه منصة لمواجهات لا يحتملها، وكل ذلك يناقض ما قام عليه لبنان وما تقوم عليه مصالحه، وخصوصاً في لحظة تتكاثر عليه الضغوطات والتحديات والاستحقاقات.
الأمل، كلّ الأمل، بالغد الذي يرسمه شباب وشابات لبنان لبناء مستقبل يليق بهم وبوطنهم.