IMLebanon

الطائف والصيغة اللبنانيّة: إنجاز سعوديّ – لبنانيّ بمشاركة عربيّة ومباركة دوليّة

 

 

بدعوة من السفير السعودي في لبنان وليد البخاري، أقيم في قصر الأونيسكو في بيروت احتفال بمناسبة الذكرى الـ33 (1989-2022) لإتفاق «الطائف». وقد شهد الاحتفال حشداً من مختلف القوى اللبنانية التي استمعت إلى شهادات شخصيّات لبنانية سياسية وفكرية ساهمت في صياغة الاتفاق، أو في شرحه وتبريره أمام اللبنانيين. هذه المناسبة تسمح باستعادة بعض الأمور والمبادئ الأساسيّة والتأسيسيّة التي أرساها اتفاق «الطائف» المعروف «بوثيقة الوفاق الوطني».

 

1 – من باب التقدير والتذكير بأصحاب النوايا الطيّبة والآيادي البيضاء الاشارة بداية الى الدور المحوري الذي قامت به المملكة العربية السعودية منذ أيام الملك فهد بن عبد العزيز، عضو اللجنة الثلاثية التي شكّلها مؤتمر القمة العربية في الدار البيضاء (23/‏5/‏1989) مع الملك الحسن الثاني المغربي والرئيس الجزائري بن جديد، مع صلاحيات كاملة وشاملة لحلّ الأزمة اللبنانيّة. إن اختيار الملك فهد وحده ما بين وادي النيل والمشرق العربي أمر له مغزاه الجيو- سياسي؛

 

2 – إن اختيار مدينة “الطائف” في قلب المملكة العربية السعوديّة مكاناً للمؤتمر لم يتم بالصدفة. بل هو خلاصة تحليل دقيق للأوضاع اللبنانية عامة وللشخصيات اللبنانية التي ستشارك في المؤتمر وللأجواء الطيبة والايجابيّة والمريحة التي تحيط بالمشاركين. من هنا فإنّ قيام التركيبة السياسية اللبنانية ينبغي أن يتم فوق أرض صلبة ومناسبة. وهو ما تقدمه مدينة «الطائف» السعودية نفسياً وفكرياً وحياتياً. وهو ما لم تقدمه من قبل مدينتا جنيف ولوزان.

 

3 – إن وثيقة الوفاق الوطني (أي اتفاق «الطائف») ليست مطالعة سياسية بل هي نصّ تأسيسي للصيغة اللبنانية كما ينبغي أن تكون. لذا فهي تشمل موضوع التوازن السياسي داخل الصيغة اللبنانية بين المسيحيين والمسلمين، كما تشمل المبادئ الاصلاحية التي ينبغي القيام بها (مجلس الشيوخ – قانون الانتخاب – اللامركزية) العلاقة بسوريا والتأكيد على استعادة لبنان سيادته واستقلاله وبسط سيادة الدولة على كافة التراب اللبناني.

 

4 – تقوم الوثيقة على ما يُعرف في علم السياسة بفلسفة التسوية القائمة على مبدأ الإنصاف بما يعني اعتراف وإقرار وقبول أفرقاء الصراع بمواقف ومطالب وتنازلات متبادلة بين قوى مسيحية وقوى اسلامية. إنها من حيث الجوهر نص سوبرا – دستوري لأنّها عقد حياة بين اللبنانيين برضى ومباركة عربية ودولية، وقد جرى التأكيد عليها في مؤتمرات القمّة العربية وبسعي واصرار ومبادرة سعودية.

 

5 – إن أهمّ ما قدّمه اتفاق «الطائف» هو ارساء معادلة سياسية جديدة في الصيغة اللبنانية. تنطلق من قاعدة ان لبنان وطن نهائي سيد حرّ عربيّ الانتماء، والسلطة الاجرائية فيه لم تعد بيد المسيحيين الموارنة كما كانت منذ زمن الانتداب الفرنسي بل إنّ السلطة الاجرائية تناط بمجلس الوزراء كقيادة جماعية، وهذا هو التعديل الأهم في المعادلة اللبنانية. فبعد الحرب في لبنان، بل من نتائج هذه الحرب كانت اعادة النظر في النظام السياسي اللبناني بإرساء معادلة واضحة ودقيقة بين دور اللبنانيين مسيحيين ومسلمين في السلطة. إنّها فلسفة الانصاف من ضمن توازن للقوى. لقد كانت السلطة الاجرائية بيد شخص واحد هو رئيس الجمهورية الماروني المسيحي، وقد أصبحت الآن بيد جماعة هي مجلس الوزراء المؤلف من رئيس مسلم ووزراء يمثلون مختلف العائلات اللبنانية. ولعلّ هذه المعادلة تمثّل أهمّ ما أسفرت عنه الحرب اللبنانية من نتائج!

 

6 – بعيداً عن موقف بعض الأحزاب التي لا تعترف بلبنان الكيان والدولة، من مثل حزب «البعث العربي الاشتراكي» و»حزب الله» – و»الحزب السوري القومي الاجتماعي»، ظلّت بعض الجهات المسيحية متعلقة بالمعادلة «الانتدابيّة» التي تمنح المسيحيين، عبر رئيس الجمهورية الأولوية والمعادلة والقرار في الأمور الاجرائية السلطوية. وهو ما عاشه لبنان ولا يزال يعيشه في موضوع تشكيل الحكومة. فبحسب نصّ الدستور واتفاق «الطائف» يناط برئيس الوزراء المنتخب مهمة تشكيل الحكومة، وهذه المهمة هي المعادل لما سبق ان أوضحناه في معادلة مسيحية – اسلامية في السلطة. فرئيس الحكومة هو وحده المكلّف بتشكيل الحكومة ورئيس الجمهورية له الحق فقط في قبول او رفض صيغة التشكيل، وليس المشاركة في التشكيل. فإذا رفض رئيس الجمهورية صيغة التشكيل عليه ان يقدّم الأسباب الموجبة لقراره امام اللبنانيين هل هي أسباب: دستورية أم ميثاقية، أم حزبية، أم شخصية، أم ذاتيّة…!

 

7 – لقد وجد آباء «الطائف» أنّ وثيقة بمثل هذه الأهميّة والخطورة بحاجة الى ضمانات تشكّل معايير مبدئية للحياة اللبنانية العامة بمختلف وجوهها القانونية والسياسية والسوسيولوجية:

 

المجلس الدستوري كضمانة قانونية، مجلس الشيوخ كضمانة تمثيلية، الاعلان العالمي لحقوق الانسان كمرجعية حقوقية دولية، حق النقض (الفيتو) كضمانة وطنية للأقليات، حكومة الوفاق الوطني كضمانة وطنية دستورية وسياسية، لتأكيد وتأمين العيش المشترك والمشاركة الكاملة في القرارات المصيريّة.

 

الطابع الدولي

 

خلال خمسة أشهر أصدر مجلس الأمن الدولي ستة بيانات بتأييد ودعم اتفاق «الطائف» وعمل اللجنة الثلاثية العربية المؤلفة من السعودية والمغرب والجزائر. مثل هذا الاهتمام الخاص لمجلس الأمن اعطى اتفاق «الطائف» طابعاً دولياً بمعنى أنّه وثيقة ذات طابع دولي، وإن لم يكن وثيقة دولية. ومع ذلك سعت جهات اقليمية لا تعترف بسيادة لبنان للانقلاب على «الطائف» وبالتالي عدم الانسحاب من لبنان والعمل من خلال ثغرتين:

 

الأولى: وضع قوانين انتخابية تؤدي الى تشويه التمثيل الشعبي.

 

الثانية: تأمين حكومات ذات لون واحد ولا تمت الى الوفاق الوطني بصلة.

 

على أنّ التحوّلات الاقليميّة بعد حرب الخليج وطروحات الشرق الأوسط الجديد أعادت لبنان الى الواجهة كدولة «هي معقل الديمقراطية»، كما وصفته كونداليزا رايس، فتذهب الشرعية الدولية الى تبني القرار الحاسم رقم 1559، وكانت حسنته الأولى أنه أجبر الذين تلاعبوا بـ»الطائف» على العودة اليه والقبول به ميثاقاً لبنانياً نصاً وروحاً. وحسنته الثانية أنه شرعَنَ دولياً وبالاجماع نهائية لبنان الدولة والكيان وأنهى الحلم السوري بضم لبنان على مراحل.

 

(*) باحث في الفكر الجيوسياسي