«ما قادر اشتري صبّاط رح صلّح القديم»، «البنطلون ضيق رح آخذه للخياط ليوسعه»، هذا ما تسمعه من الناس هذه الأيام، بعدما بات شراء حذاء او كنزة وغيرهما يتطلب راتب اربعة اشهر وأكثر، وهو ما دفع بكثر للزحف نحو الكندرجية والخياطين الذين تعج محلاتهم بألبسة وأحذية تحتاج الى تصليح وترقيع.
في سوق اللحم التراثي وسط سوق النبطية يحاول الكندرجي علي الخياط تلبية طلبات الزبائن، محله الصغير بالكاد يتسع للاحذية والشنط التي تنتظر دورها لـ»تستعيد صحتها»، فالطلب كبير على التصليح كما يقول وهو منهمك بإصلاح حذاء ممزق، فـ»الازمة فرضت نفسها على واقع الناس، ممن باتوا عاجزين عن شراء الاحذية الجديدة، ما دفع بهم نحو التصليح». انكماش السوق ضخّ الحياة في مهن الاجداد، ويعيش سوق النبطية ركوداً كبيراً نتيجة الظروف الطارئة، ما دفع بعدد لا بأس به من المحلات للاقفال، وبعضها غيّر هويته التجارية من الملابس والاحذية نحو المواد الغذائية.
إزاء غليان الاسعار، أصبح التصليح «أرخص عالجيبة»، على حد قول ابو علي الذي شاء ان يصلح حذاءه «لأن مش قادر إدفع 650 الف ليرة ثمن حذاء، أصلحه بعشرة آلاف ليرة». كثر حذوا حذوه ما جعل من مهنة الكندرجي تنشط بقوة، وتزدهر مجدداً رغم قلة عدد العاملين فيها.
بالكاد يجد الخياط متسعاً من الوقت ليستريح، يجهد لكي يلبي طلبات كل الزبائن، يؤكد أن مهنة الكندرجي كانت رائدة قبل ان تنحسر تدريجياً وتقتصر الاعمال على بعض التصليحات العابرة، حذاء يحتاج كعباً، شنطة تحتاج سحاباً، لكن بعد دخول الوطن نفق أخطر أزمة اقتصادية، ونتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار، لم تجد سلوى سوى اللجوء للكندرجي لإصلاح شنط أولادها المدرسية، وتلزيق احذيتهم أو اعادة خياطتها، «لأنني أعجز عن شراء شنطة بـ30 دولاراً وحذاء بـ500 الف ليرة، فالمعاش بالكاد يكفي فاتورة اشتراك والقليل من تأمين الأكل»، وتردف «ما النا غير الكندرجي». يؤكد الكندرجي علي أن نسبة اقبال الناس على تصليح الاحذية فاقت الـ90 بالمئة، وهي نسبة تؤكد الحالة الاقتصادية التي يرزح تحت وطأتها الناس، من دون أن يخفي أنه إضطر لرفع أجرة التصليح تماشياً مع الغلاء «خاصة وأن كل المواد الاساسية للتصليح نبتاعها وفق سعر صرف الدولار الحالي».
خياطة الملابس
ليس تصليح الاحذية وحده النشط بل ايضا تصليح الملابس حيث انتعش قطاع الخياطة بعد أفول لزمن طويل، وقد فضّل الناس سابقاً شراء الملابس الجديدة على التصليح، اذ كانت الاسعار رخيصة وتتماشى مع المعاشات التي كانت جيدة، قبل ان تحل الكارثة وتتبدل الاحوال، ويصبح أكبر معاش لا يتخطى الـ100 دولار، وهو مبلغ لا يكفي لشراء حذاء وفاتورة اشتراك كهرباء، ما ادى للجوء الى الخياط.
في محله الصغير يزاول الخياط حسن الشريف مهنته منذ زمن طويل، فهو خبرها عن ظهر قلب، غير أنه لم يشهد ازدهاراً مماثلاً في السابق، «لان الناس باتت عاجزة عن شراء الجديد فلجأت للقديم»، مؤكداً ارتفاع الطلب على التصليح «من تضييق وتوسعة وخياطة وغيرها من التصليحات التي تنقذ المواطن في هذه الازمة».
تدخل سيدة على عجل، تريد اصلاح ملابس اطفالها وهي تردّد «لوين وصلونا، لزمن ما بقى قادرين نشتري حتى قنينة مي»، تؤكد ام رامي»أن الظروف باتت اكثر من صعبة، احيانا نضطر على مضض لاصلاح الالبسة حين يتوفر المال، وليس دوما نملك المال للتصليح، فبالكاد يكفي راتبنا لدفع فواتير كهرباء وبنزين ونتقشف بالطعام والتصليح افضل من لا شيء». بالكاد يرفع الخياط حسن رأسه، فالضغط الكبير في محله يدفعه للعمل ساعات مضاعفة ليتمكن من انجاز طلبات الزبائن، لا ينكر أن الخياطة عادت لتزدهر، وأنه رفع كلفة التصليح لان الخيطان والعدّة كلها يشتريها على سعر صرف الدولار، «غير أنني لم ارفع التعرفة كثيراً بل تتماشى مع ظروف الناس، ففي النهاية يجب ان نكون كلنا جنب بعض».
نفضت الأزمة المعيشية الغبار عن مهن الاجداد وضخت الروح داخلها، فتشهد حركة كبيرة على قاعدة «مصائب قوم عند قوم فوائد».