التعميم 161 من الإقتصاد إلى السياسة والتأثير في قطاع التربي
استفاق اللبنانيّون وموظّفو القطاع العام بالتحديد على جريمة جديدة طالت رواتبهم الموطّنة في المصارف اللبنانيّة منذ تاريخ 10/12/2001 يوم كان ذلك للحدّ من مخاطر نقل الأموال وحفظها، وتسهيلاً لعمل معتمدي القبض. والهدف الأساسي من تلك العمليّة، أي التوطين، كان بحسب مصادر في وزارة الماليّة، لتطبيق جزء من مشروع تحديث الإدارة الماليّة في البلاد عامّة؛ وصولاً إلى استعمال المكننة في الوزارات كافّة خلال عمليّات القبض أو الدفع، توصّلاً إلى مكننة الدّولة كلّها.
صار المودع بالدّولار يسحب ودائعه على سعر صرف 8000 ليرة وبالعملة اللبنانيّة، والموظّف يقبض راتبه بالدّولار من المصارف وبحسب تسعيرة منصّة صيرفة – التي كانت في أوّل الشهر هذا بسعر 22400- ويعود فيبيع راتبه الذي تقاضاه بالدولار الأميركي في السوق السوداء بسعر 19500 أو ربّما أقلّ. وهذا ما يعني عمليّاً عكس ما قام به الشهر الماضي حيث تمكّن موظّفو القطاع العام من الحصول على ما يقارب 500 ألف إضافيّة غير رواتبهم نتيجة الفارق في سعر الصرف.
أمام هذا الواقع أشارت أستاذة العلوم الإقتصاديّة في جامعة القديس يوسف، البروفسورة «نيكول بلّوز بايكر» ل»نداء الوطن» إلى أنّ «الهدف من هذه العمليّة تحقيق ما طلبه صندوق النقد الدّولي من الحكومة اللبنانيّة وهو توحيد سعر الصرف. أو ربّما قد يكون الحاكم الذي أقدم عليه بنفسه لتثبيت تقريبي لسعر الصرف بهدف تسهيل مهام الحكومة في وضع موازنة لا تتأثّر بتقلّباته الكبيرة. فضلا عن إجبار معظم المعاملات الاقتصاديّة بالمرور عبر المصارف لتتمكّن الدّولة من تحديد العرض والطلب على الدولار لمعرفة سعره الحقيقي. وعمليّاً توحيد سعر الصرف يعني إلغاء السوق السوداء، وما قام به مصرف لبنان عبر التعميم 161 الشهر الفائت هو تقريب سعري الصرف: المنصّة والسوق السوداء، لإلغاء هذه الأخيرة. لتصبح كلّ عمليّات الصرف عبر الشبكة المصرفيّة وبالتالي تبطل منفعة السوق السوداء. ومن جهة ثانية هدفه غير المعلن كان سحب السيولة بالعملة الوطنيّة لوقف التضخّم.»
وطرحت بلّوز الإشكاليّة المضمَرَة في هذه العمليّة والتي تكمن في السؤال الآتي: من أين أحضر مصرف لبنان الدولارات لضخّها في السوق؟ هل هي من الحقوق المميّزة للسحب التي منحها البنك الدّولي للدولة؟ أو ما يعرف بالإنكليزيّة Special Drawing Rights. ولماذا عكس العمليّة الآن؟ وهل من جهة سياسيّة مستفيدة من هذه العمليّة النقديّة؟ أو هل لأنّه توصّل إلى هدفه بتوحيد المنصّة والسوق السوداء؟
بينما هدف التعميم 161 كان لحثّ الناس على صرف أموالهم بالليرة. الآن توقّفت هذه المسألة لكأنّه يقول للنّاس لا مصلحة لديكم بصرف دولاراتكم. لكن هل هنالك من قدرة بعد لمصرف لبنان على متابعة عمليّة ضخّ الدولارات في السوق؟ فبحسب بلّوز « تقنيّاً المصرف المركزي يقوم بما عليه أن يقوم به في كلّ مرّة كما يطلب منه من الجهات الدوليّة. تمامًا كما كان يديّن الدّولة استنادًا إلى المادّة 91 من قانون النقد والتسليف التي تسمح للمصرف المركزي بتديين الدولة في الحالات الاستثنائيّة.»
يعني هذا عمليّاً أنّه لا يتجاوب مع ما يطلب منه، وهذا ما يفسّر الهجوم المستمرّ عليه من قبل روّاد المنظومة والمنظّمة. وهذا ما يؤشّر أيضاً إلى أنّ سعر الصرف صار غبّ الطلب لأنّه مرتبط بما تريد أن تسجّله هذه المنظومة من مواقف سياسيّة. أي قد يستخدم سعر الصرف هذا كعامل ضغط في أيّ عمليّة ابتزاز سياسيّ حتّى ما بين الفريق الحاكم نفسه.
وفي ضوء هذه الأراجيز الإقتصاديّة والنقديّة يرزح قطاع التربية تحت أثقال لا طائل للعاملين فيه على احتمالها. والمعلّمون اليوم منقسمون. منهم مَن يزاول عمله بشكل طبيعي، لا سيّما معلّمي التعليم الخاص، ومنهم مَن يضرِبُ عن مزاولة عمله، وهم أساتذة التعليم الثانوي الرسمي. فيما أساتذة التعليم الأساسي والمهني علّقوا إضرابهم وعادوا إلى مدارسهم ومعاهدهم.
فما يطالب به الأساتذة من قضايا محقّ في جوهره. لكن مقارنة مع الوضع المأزوم الذي نمرّ فيه لا بدّ من تضحية في مكان ما لإنقاذ ما تبقّى من العام الدراسي. ولا سيّما أنّ التفاوت في تنفيذ المطلوب من المنهج المقرّر بات شاسعاً جدّاً بين القطاعين العام والخاص. وهذا ما يطرح إشكاليّة كبيرة، خصوصاً بالنسبة إلى توقيت الامتحانات الرسميّة بعدما جزم معالي وزير التربية إجراءها. ويبقى الاختلاف هنا حول توقيتها بحسب تنفيذ المطلوب من المناهج.
وتجدر الإشارة إلى صدور بيان عن الرابطة البارحة، وقد يكون الأخير بعد أن تُسلّمَ الرابطة الجديدة التي تمّ انتخابها الأحد الفائت، سلّط الضوء على هذه الإشكاليّات طالباً من الأساتذة «العودة إلى التعليم الحضوري ابتداء من يوم الإثنين 7/2/2022 وذلك من خلال ربط نزاع مشروط مع الدولة اللبنانية.» ووضعت الرابطة القديمة « أمام الهيئة المنتخبة الجديدة متابعة المسيرة من خلال التواصل مع كافة الكتل النيابيّة والرؤساء الثلاثة لتحصيل كامل الحقوق وحفظ كرامة الأستاذ.» وعرضت اثني عشر مطلباً أبرزها ترتبط بالقضايا الماديّة من الحوافز والمنح وصولاً إلى تصحيح الرواتب. وختم البيان بدعوة «الهيئة الإدارية للرابطة كافة القوى المنضوية تحت لواء القطاع العام للتكاتف والتضامن والإتحاد لمواجهة فعليّة لكلّ ما يخطّط في الموازنة لضرب الوظيفة العامّة، وتحميل الموظفين تبعات الإنهيار المالي والإقتصادي، وغضّ النظر عن الأسباب الحقيقيّة وطرق معالجتها.»
كذلك صدر عن الرابطة بيان ردّ على المغالطات التي تمّ تداولها في حلقة تلفزيونيّة عن الملفّ التربويّ صوّب الأمور لا سيّما من حيث « الحديث عن انهيار التعليم الرّسمي وتسرّب الطلاب فهو تضليل وطمس للحقائق. فبدل الافتراء والكذب إرجعوا إلى السنوات المنصرمة لمراجعة نتائج الامتحانات الرسمية، التي تظهر أنّ التعليم الرسمي بكوادره وطلّابه استطاع تحقيق المراتب الأولى في لبنان، وطلّابه من الأوائل في امتحانات الدخول في الجامعات، وكثر منهم باتوا روّاد معرفة على صعيد العالم.»
وخلاصة ذلك كلّه، الاثنين يستعيد القطاع التربوي جزءاً كبيراً من عافيته بانتظار الدولة أن تفي بوعودها للمعلّمين كافّة في القطاعين العام والخاص ليستطيع المعلّم أن يتابع رسالته في التعليم، وكي لا تتحوّل هذه الرسالة على حساب كرامة المعلّم أينما وجد. مع ضرورة أن يتحمّل كلّ أركان العمليّة التربويّة جزءاً من الخسارة التي ضربت هذا القطاع الحيوي لنستطيع المحافظة عليه بهدف بناء أجيال الغد ووطن المستقبل.