محنة لبنان داخلية قبل أن تكون خارجية. وقدر اللبنانيين أن يعانوا إغراء الجغرافيا لقوى عدة، ويحمّلهم التاريخ مشقة العمل لأكثر من إستقلال. شيء مما سماها مالك بن نبي “القابلية للإستعمار”، وشيء من الضيق بكل إحتلال أو وصاية. شيء من تضييع الإستقلال بسياسات زعماء يتصرفون كأنهم محور الكون، وشيء من الفشل في بناء دولة تستحق الإستقلال ومن النجاح في صنع الأزمات الخانقة للناس. ولا شيء يكتمل. لا الإستقلال، ولا الإحتلال.
عام 1943، كان الإستقلال عن الإنتداب الفرنسي بقوة التفاهم الوطني وحسابات الكبار لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. الإمتحان الأول له جاء باكراً عام 1958، فأصيب بجراح في الأحداث الدامية التي نشبت لأسباب محلية ضمن الصراع بين المحور الناصري وحلف بغداد. وفي الإمتحان الثاني خلال حرب لبنان التي بدأت عام 1975، سقط برصاص البندقية الفلسطينية وتحت الدبابات السورية والإسرائيلية في ظل الصراع الأميركي-السوفياتي. وحين إستعدنا السلم الأهلي في إتفاق الطائف، فإننا لم نستطع إستعادة الإستقلال. حتى تحرير الجنوب من الإحتلال الإسرائيلي بالمقاومة عام 2000، فإن التحرر الوطني لم يكمله.
عام 2005 جاء “الإستقلال الثاني” عن الوصاية السورية بقوة “ثورة الأرز” التي أعقبت إغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه والتفاهم الأميركي-الفرنسي على القرار الدولي 1959. لكن ممارسة الإستقلال تعثرت واصطدمت بالوصاية البديلة التي تولتها قوى “8 آذار” بقيادة “حزب الله”. و”ثورة الأرز” ضاعت بالسياسات والحسابات الفئوية التي أدت الى فرط “14 آذار”. والتحدي أمام لبنان اليوم هو العمل من أجل “الإستقلال الثالث”: الإستقلال عن الوصاية الإيرانية. والمعادلة التي صار من الصعب تجاهلها بعد أزمة العلاقات مع السعودية ودول الخليج هي: إما “تحرير البلد المخطوف” ليعود الى دوره التاريخي، وإما تركه للإنهيار الكامل والهيمنة الإيرانية.
والكل يعرف المنطق المعاكس الذي تردده أصوات عدة. حجة بعضها أن المسؤولين لا يستطيعون، ولو أرادوا، إستعادة الهامش الفاصل بين لبنان الرسمي وسلوك “حزب الله” في المنطقة، وأن ثمن إنهاء السيطرة على البلد هو حرب مدمرة له. وحجة بعضها الآخر أن قادة “حزب الله” وأفراده هم لبنانيون والبيئة الحاضنة لهم لبنانية، وإن كان المال والسلاح من إيران والولاء لها. لكن هذا المنطق كان حاضراً عند كل إستقلال. فالذين أرادوا بقاء فرنسا ورفضوا انسحابها كانوا لبنانيين وبينهم مسؤولون ومرجعيات وحزب قوي. والذين أرادوا بقاء القوات السورية ولا يزالون من أنصار النظام من بعد إنسحابه وتعرضه لإنتفاضة صارت حرباً، هم أيضاً لبنانيون وبينهم مسؤولون وأحزاب وتيارات.
فضلاً عن أن الإنتداب الفرنسي لم يعمل لإلغاء هوية لبنان. وفرنسا اليوم في طليعة من يهتمون بنا. أما في الوصاية الإيرانية بعد السورية، فإن الهدف هو تغيير البلد.
ولا بلد يشتري الكلام الذي يبيعه المسؤولون عن الحرص على أفضل العلاقات مع العرب. إذ “يجب القيام بشيء ما للإعتراف بأننا فكّرنا فيه”، كما قال نابوليون بونابرت.