لم تعد مسألة الحياد التي طرحها البطريرك الراعي مجرد فكرة للنقاش أو حجر ألقي في المستنقع اللبناني ليحرك ركود الحياة السياسية في البلاد. صار “الحياد” أكثر من عنوان عريض وبرنامج عمل سياسي. لقد تحول، بفعل الالتفاف حوله بصراحة او باستحياء، دستوراً “بالقوة”، ولن يخرج هذا الوطن من محنته إن لم يصر دستوراً “بالفعل”.
إنها “الجمهورية الثالثة” التي يضع مار بشارة بطرس ملامحها، وهو “الصخرة” التي ستبنى عليها، والتي يجب ان تؤسس للبنان الجديد في الذكرى المئوية لتأسيسه. وهي ليست وليدة الرغبة او الحلم بل الحاجة الماسة بعدما فشلت “الجمهورية الثانية” برموزها وقواها السياسية في اخراج لبنان من أزماته الوطنية وحوّلت مقدرات البلاد ومؤسساتها نهباً للوصاية والفاسدين وشذاذ الآفاق والمتطاولين على السيادة والكيان.
إنها “إعادة تأسيس” للجمهورية تنطلق من التجارب الحلوة والمرة، من الانجازات الكبرى في التعليم والثقافة والتعدد والتجربة الديموقراطية والتعايشية، ومن رحم الاخفاقات والمعاناة التي عاشها شعبنا قرناً من الزمن، ومن الجهد والعرق والدم التي بذلها بكل فئاته وطوائفه، والتي يجب وضع حد لها لأنه حان وقت أن يعيش هذا الجيل والأجيال المقبلة في وطن طبيعي، لا تتنازعه مصالح دولية واقليمية ولا تكون لطوائف او فئات فيه مشاريع فوق وطنية وارتباطات تبعية مع اي خارج كان.
هو عقد وطني جديد يقترحه غبطة البطريرك لكن يمكن تبسيطه بجملة واحدة: دولة القانون القوية. وتحتها تُدرج كل متطلبات الحياد. ولأن المطلب جدي ويلقى صدى واسعاً فاتحاً كوة أمل للبنانيين، فإن “المنظومة” الحاكمة تحاول تسخيف الطرح عبر المزايدة التافهة بموضوع العداء لاسرائيل، في حين ان البطريرك أوضح أكثر من مرة ان الحياد يستثني هذا العدو بالتحديد. وفي المناسبة نقول لفخامة الرئيس ولدولة الرئيس ولعطوفة الرئيس، قبل ان يدلي بدلوه ويهدد بمشروع طائفي للانتخابات، ولكل من يشاطرهم الرغبة في التذاكي باطلاق هذا السجال: “خيطوا بغير هيدي المسلة”. أنتم لستم أكثر وطنية من أي لبناني سرقت ودائعه في المصرف او طرد من العمل او يبحث في القمامة ليسد رمقه او يمارس نشاطه العملي او الفكري في لبنان والاغتراب، ولن تكونوا حتماً أكثر وطنية من بطريرك الموارنة ولا من كل الذين أيدوا العناوين العريضة لندائه للحياد من جمهور ونخب وقادة الطوائف الأخرى، أو من القوى المدنية الثائرة التي ترفع لواء المواطنية لتجاوز نظام الزبائنية وتحقيق المساواة.
أنتم يا حضرات الرؤساء لستم أكثر حرصاً على القدس من محمود عباس ولا الرئيس السيسي ولا ملك الأردن ولا قادة الخليج. فلا تزايدوا على أي عربي في التزامه القومي ولا على أي لبناني في انتمائه العربي والتزامه قضايا هذه الأمة على قدر طاقة لبنان.
أما ما تروّجون من وجوب التوافق والحوار طريقاً للتحييد أو الحياد فهو مرغوب ومطلوب لكنه ليس شرطاً شارطاً لأن الشعوب الحرة تتفاهم على التفاصيل، ولا تساوم على ما جعله البطريرك من المسلمات الوطنية وأكبر من كل الاعتبارات.