جملة أفكار مشتّتة حملها المؤتمر الصحفي للوزير السابق جبران باسيل منذ يومين، عبّرت بطريقة واضحة عن ضيق الوقت المتبقي للعهد وصهره لتحقيق التعديل الذي ينشده الثنائي الحاكم في بنيّة النظام السياسي والانتقال إلى الجمهورية الثالثة. المؤتمر التأسيسي هو ما أراد باسيل الذهاب إليه، وقد أرفق ذلك بتهديد واضح في الدعوة «لمقاربة الموضوع على البارد لكي لا تقع المشاكل ويصبح الحل على السخن»، وكلّ ما سبق ذلك كان تسويقاً لما يريد باسيل ومن خلفه تحقيقه.
لا قيمة للتوقف عند كلّ ما أورده باسيل من إتهامات لتبرئة حزبه وحلفائه من تهم الفساد في قطاعات الكهرباء والنفايات والتلزيمات والسدود والدين العام، فالكل يدرك أنه دخل الحكم ويمكث فيه منذ اتّفاق الدوحة (2008) الذي أعقب إجتياح حزب الله لبيروت وسيطرته بشكل تام على القرار السياسي والمالي والقضائي والأمني. وقد تمّ تتويج هذا «الإنجاز» بانتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية في تشرين الأول 2016 وإخراج الفريق الآخر من المعادلة بعد الإنتخابات النيابية الأخيرة. اللبنانيون يدركون أنّ باسيل شريك في تسارع الفساد والدين العام الذي تضاعف أكثر من ثلاث مرات في عهدة واحتضان فريقه السياسي. كذلك فإنّه من الإستحالة بمكان تبرئة سياسات العهد الخارجية وتحالفاته الإقليمية من مسؤولية الحصار الذي يعيشه لبنان بالقول إنه نتيجة خيارات وطنية بمواجهة إسرائيل والتكفيريين، وأنّ النموذج التعدّدي اللبناني مستهدف من قبل إسرائيل التي تريد تفتيت المنطقة. فالخيارات الوطنية ببعدها الخارجي لا تعني العبث بأمن سوريا والعراق واليمن ودول الخليج ولا يمكن فهم حماية النموذج التعدّدي بالتحالف مع حزب مذهبي تدعو عقيدته إلى إقامة دولة إسلامية على المذهب الإثني عشري وتؤثر التحالف مع كلّ الأقليات في المنطقة لحماية مشروعها.
الخطير في خطاب باسيل في ما قدمه لملاقاة مشروع النظام السياسي البديل الذي يزعم تحقيقه، فهو متفق مع حزب الله أن لا يكون لبنان مسرحاً لصراعات الآخرين وأن لا يكون السلاح المقاوم في خدمة أي مشروع غير حماية لبنان، ولكنّ مسألة السلاح متداخلة مع مشاكل المنطقة أما مسألة تطوير النظام فداخلية. تصبح مسألة تعديل النظام داخلية يا معالي الوزير عندما تكون المكوّنات السياسية محلية ومجردة من الولاءات الإقليمية، ولا اقتصاد أو نفوذ لها إلا بما يتفق مع القانون، وعندما تجرؤون على الطلب من حلفائكم في طهران عدم استباحة السيادة اللبنانية والقفز فوق الدستور وتبنون مواقفكم السياسية وتحالفاتكم على أساس ذلك.
الأثمان التي اعتقد باسيل أنّ لبنان دفعها منذ العام 48 وحتى العام 83 حين لم يكن هناك حزب الله لا زالت مستمرة، فقد دفعها اللبنانيون في العام 1990 عند الإصرار على مواجهة تسويّة الطائف لإنهاء الحرب في لبنان ودخول الجيش السوري الى وزارة الدفاع والقصر الجمهوري، ودفعها في العام 2006 كنتيجة لمنع الجيش من دخول الجنوب بعد انسحاب العدو الإسرائيلي، ويدفعها منذ العام 2013 بعد الإصرار على دخول حزب الله الحرب في سوريا. سبب كلّ هذه الأثمان هو عدم التزام الميثاق الوطني الذي لا يريد باسيل أن يراه سوى تعبيراً عن تسويّة طائفية لتقاسم الحكم أو للإستقواء بالخارج، هكذا نظر إليه كلّ الحكام الموتورين الذين أغرقوا لبنان في الأزمات والدماء ولا زال عدد منهم يريد تكرار المغامرة وأنت منهم.
تحمل دعوة الوزير باسيل لنظام سياسي جديد «قبل أن تفرضه علينا التطورات ويجبرنا الخارج على تسويات عرجاء» أكثر من تهديد، وهي تلاقي المؤتمر التأسيسي الذي دعى إليه الأمين العام لحزب الله في وقت سابق. يبني الحليفان مغامرتهما على فرضية استئناف الإدارة الأميركية الجديدة التفاوض مع طهران ووقف العقوبات عليها، مما سيعيد التوازن للعلاقات الإقليمية لصالح طهران، وينعكس على العلاقات الداخلية. هذا السيل من الافتراضات سمح للوزير باسيل بالاستفاضة في الحديث عن لبنان المتصالح مع سوريا وتداعيات ذلك على العلاقة الاقتصادية والعسكرية والسياسية بين البلدين.
يشعر الوزير جبران باسيل أنّ عامل الوقت قد أصبح ضاغطاً لتحقيق ما اعتقده متاحاً من خلال التحالف مع حزب الله، بالرغم من النجاح في إضعاف موقع رئاسة الحكومة وتحقيق أكثرية في المجلس النيابي وتكريس أعراف تعيد لبنان الى الجمهورية الأولى. لم يقرأ الوزير المتسرع التاريخ جيداً، فما يعتقده مسألة داخلية هو جزء من مشهديّة إقليمية لتوزيع النفوذ عصيّة على التعديل بالرغم من كلّ عناصر القوة المتخيّلة، وما لا يدركه الوزير كذلك أنّ شريكيه الإقليميين، النظام المتعثّر في سوريا والجمهورية الإسلامية المتخبطة في طهران، ليسا سوى مرشحين محتملين على لائحة الانتظار لضبط بقعة الفوضى المتبقية في لبنان بالشروط الأميركية، وإنّ أقصى ما يمكن أن تبلغه طموحات باسيل هو جمهورية ثالثة بمرجعيّة فارسية.
مدير المنتدى الإقليمي للإستشارات والدراسات