المأخذ على الجمهورية الأولى كان يتمثّل في غياب عاملي الشراكة والمساواة، فيما المأخذ على الجمهورية الثانية انّها تشبه كل شيء إلّا الجمهورية.
لم تندلع الحرب اللبنانية بسبب غياب عاملي المساواة والشراكة، بل اندلعت بفعل تحميل لبنان عبء خيار ثورة فلسطينية تريد تحرير القدس من جونية. وبالتالي، لم ينفجر الوضع بسبب عوامل سلطوية وتوازنات داخلية، إنما نتيجة طغيان العامل الإقليمي على المحلي، وتأثُّر بعض الداخل بعناوين الخارج، التي لا طاقة للبلد الصغير على حملها وتحمُّلها.
فالانقسام العمودي بين مؤيّد للثورة على حساب الدولة والسيادة، ورافض لهذه الثورة، التي تستبيح السيادة وتعطِّل عمل الدولة، أدّى إلى اندلاع الحرب، فيما الخلاف حول تحقيق المساواة كان تحت السيطرة لا بل تمّ استخدامه كوقود وتربة صالحة لتمكين الثورة من زعزعة أركان الدولة.
ولا خلاف على أنّ الشراكة مسألة أساسية لا ثانوية، ولكن، ما حال دون تحقيق هذه الشراكة هو الخلاف العميق بين توجّهات الشارع حول معنى لبنان ودوره ونهائيته، وعدم قدرة القوى السياسية على لجم مشاعر هذا الشارع وضبط انفعالاته، في ظلّ المخاوف من ان يؤدي أي تغيير في بنية السلطة إلى تغيير وجه لبنان ودوره.
وعلى الرغم من انّ الأحداث قد أظهرت انّ التمسُّك بمواقع سلطوية لم يحل دون انهيار البلد، إلّا انّ الفكرة التي تحكمّت بهذا التوجّه كانت منطلقاتها الحفاظ على لبنان الدولة، والدليل انّ الخلاف العميق اليوم ليس حول صلاحيات هذه الرئاسة او تلك، إنما استمرار للانقسام نفسه حول دور لبنان، بمعزل عن اختلاف الوجوه واللاعبين والشوارع.
وما لم يُحسم الخلاف العميق حول فكرة لبنان ودوره، لا أمل بقيامة هذا الوطن، لأنّ التعطيل المؤسساتي الفعلي ليس ناجماً عن خلاف صلاحيات ولا عن صراع طوائف ولا يتصل بالنظام الطائفي، الذي يحلو للبعض شيطنته للتعمية على المشكلة الجوهرية المتمثلِّة بالسؤال الأساس، الذي دأب الشيخ بيار الجميل على تكراره مع كل إشراقة شمس: أي لبنان نريد؟
وفي حمأة كل هذا النزاع لا بدّ من الإقرار، وإقرار الجميع من دون استثناء، أنّ الجمهورية الأولى شكّلت نموذجاً على مستوى الشرق الأوسط بتعدديتها وديموقراطيتها وحرّياتها وتداول السلطة داخلها وطليعيتها في شتى المجالات والقطاعات التعليمية والثقافية والاستشفائية والاقتصادية والمالية والسياحية والإعلامية والسياسية. ومن الحرام رجم هذه الجمهورية، التي أفسحت في المجال للجماعات أن تمارس أدواراً لا تمارسها في دول أخرى، كذلك أفسحت في المجال للأفراد باعتماد نمط عيش حديث ومتطوِّر بعيداً من النمط البوليسي والديكتاتوري السائد في دول أخرى.
وفي السياق نفسه، من الحرام رجم الآباء المؤسسين لهذه الجمهورية على خلفية ثنائية، استثنت الآخرين من المشاركة في القرار السياسي، لأنّ لا خلفية مقصودة بالاستثناء والتفرُّد والاختزال، إنما معطيات تلك المرحلة السياسية والديموغرافية والدينامية والجهوزية والفعالية، فرضت نفسها بتقدّم هذه الثنائية على غيرها، وشكّل تقاطعها مدخلاً لانتزاع الاستقلال وإعلان الميثاق وقيام الدولة الحاضنة للجميع، والتعديلات التي أُدخلت على وثيقة الوفاق الوطني في «اتفاق الطائف» جاءت لسدّ الثغرات التي ظهرت في الممارسة، وتجسيد الشراكة التي لم تكن يوماً موضع إشكالية فعلية، فيما الإشكالية الحقيقية التي نصّت عليها وثيقة الوفاق الوطني ولم تُطبّق حتى اليوم، تكمن في جوهر الصراع الذي أدّى إلى انهيار لبنان وتفكّك الدولة.
فالخلاف الذي نشب قبل الحرب ما زال مستمراً بعدها، وجوهر التسوية السياسية في «إتفاق الطائف» يكمن في التوفيق بين نهائية الكيان وعروبته، فجاء من يطيح الكيان والعروبة معاً. كما جاء «الطائف» ليحسم مركزية الدولة لجهة إمساكها بالقرار السيادي ولامركزيتها، تحت بند اللامركزية الإدارية الموسعة، من أجل توفير أفضل خدمة للمواطن، بفعل عجز الدولة المركزية عن تقديم الخدمات المطلوبة، سوى في حال أعطت السلطات المحلية سلطة القرار الإداري، فجاء أيضاً من يطيح الدولة المركزية ويقيم لامركزيته او فيدراليته وحتى كونفيدراليته، ويزايد على الآخرين بوحدويته ويخوِّن كل من يناقش الأفكار السياسية.
ولو كانت التجربة التي تلت العام 1990 أفضل من التجربة التي تلت العام 1943 لكان انتقاد الجمهورية الأولى مبرّراً، ولكن شتاناً ما بين الجمهوريتين الأولى والثانية، جمهورية وجه لبنان الحضاري وجمهورية وجه لبنان المتخلِّف، ولا حاجة لحوار طبعاً من أجل معالجة الخلل البنيوي في الوضع اللبناني، لأنّ الحوار مضيعة للوقت في ظلّ طرف رافض الإقرار بنهائية لبنان وحياده الإيجابي ومركزية الدولة. إنما المطلوب الوصول إلى ميزان القوى الذي يسمح بتطبيق البند الأوّل في اي اتفاق وطني، وهو مرجعية الدولة.
أما المشترك بين الجمهوريتين، هو أنّ من دمّر الجمهورية الأولى بسبب تبديته الأولوية الخارجية على الداخلية، دمّر الجمهورية الثانية بتبديته الأولوية نفسها. فهناك من بنى وطناً ودولة، وهناك من حوّل الوطن إلى ساحة والدولة إلى ذكرى تحتفل سنوياً باستقلال وهمي. ويكفي الآباء المؤسسين فخراً بأنّهم أسسوا دولة من لا شيء، فيما من تسلّم هذه الدولة حوّلها إلى لا شيء.
ولم يكتف الفريق الممسك بالقرار بانتهاك السيادة ومصادرة قرار الدولة وضرب الدستور والإساءة إلى علاقات لبنان الخارجية وتعريض اللبنانيين لحروب إقليمية وداخلية، بل أطاح كل ميزات لبنان التفاضلية الاقتصادية والثقافية والطبية والسياحية، وأوصله إلى الانهيار في كل شيء: انهيار في القيم، وانهيار في السياسة، وانهيار في المال، وانهيار في الثقة الداخلية والخارجية.
وعلى رغم ذلك، يأتي من ينتقد لينتقد، وكأنّه يتكئ على نموذج حضاري يحوّل الطرف الآخر دون ترجمته على أرض الواقع، فيما الواقع انّ الفريق الذي يتحدث باسمه المُنتقِد أطاح النموذج الحضاري الذي كان قائماً، والأغرب بأنّهم يتحدثون عن الطائفية بكونها شراً مطلقاً، فيما تركيباتهم طائفية حتى العظم ومشاريعهم طائفية إلى أبعد حدود، والنموذج الذي يدعون إلى تعميمه طائفي بامتياز ولا يتسع لغيرهم سوى على قاعدة الفرز بين مواطن درجة أولى وآخر درجة ثانية.
ونكرّر، انّ المشكلة في لبنان ليست طائفية، خصوصاً وانّ الدولة مدنية بامتياز، بارتكازها على تشريع مدني لا ديني، والشراكة القائمة على مستوى التوازن الدقيق بين الجماعات تشكّل الضمان للديموقراطية التوافقية والحرّيات على أنواعها، بعيداً من الديموقراطية العددية التي شكّلت وما زالت، هدفاً مركزياً للقائلين برفض الطائفية شكلاً تحقيقاً لهدف الهيمنة الطائفية فعلاً.
فالمشكلة الأساسية والجوهرية والبنيوية في لبنان، كانت وما زالت في غياب الولاء للبنان، وتبدية ولاءات الخارج على ولاء الداخل. وعبثاً البحث عن حلول ترقيعية قبل معالجة مسألة الولاء بثلاثية ذهبية: نهائية الكيان، الحياد الإيجابي وسيادة الدولة على أرضها وقرارها، اي بالعودة إلى المبادئ العليا التي تأسست عليها الجمهورية الأولى. ولم يكن المؤسسون هواة عندما وضعوا هذه المبادئ، التي لولاها لما استقلّ لبنان ولا أبصرت تلك الجمهورية النور.
وما بين الانهيار الإقليمي للدولة الراعية للانهيار في لبنان، وما بين الانهيار الداخلي، هناك فرصة حقيقية يجب التقاطها في اللحظة المناسبة، من أجل التخلُّص من الجمهورية الثانية الفاشلة والولوج إلى الجمهورية الثالثة التي تشكّل امتداداً للجمهورية الأولى بعناوينها السياسية لا السلطوية: سيادة مطلقة ودولة فعلية ولا شرق ولا غرب ولا عرب ولا فرس في الحياد، وإحياء للميثاق بتوازن دقيق بين الجماعات وحرّيات للأفراد ونظام اقتصادي ليبرالي ولامركزية إدارية موسعة وقانون انتخاب يجسِّد الواقع التعددي ويؤمّن الحماية للديموقراطية والاقتصاد ووجه لبنان الحضاري..