Site icon IMLebanon

المرحلة الثالثة من الحركة التصحيحية

 

قبل سبعة وأربعين عاماً، باشر حافظ الأسد حركته التصحيحية في سورية المستمرة آثارها وتداعيتها إلى اليوم، على شكل مزيج من ثورة وحروب تدخل أجنبي وتدمير منهجي للمجتمع السوري. أسس الأسد الأب للانهيار الكبير الذي يديره بكفاءة عزّ نظيرها، وريثه وخليفته، المُحاضر في السيادة الوطنية بين غارتين إسرائيليتين وعلى بعد كيلومترات قليلة من مقرات «الحرس الثوري» الإيراني والقواعد الروسية التي ما كان له وجود اليوم من دونها.

الاسم الذي أطلقه حافظ الأسد على انقلابه يدعو بذاته إلى التأمل. إلى أين كان يتجه مسار حزب البعث العربي الاشتراكي قبل أن يبادر الأسد إلى «تصحيحه»؟ الأرجح أن التصحيح المقصود هو نزع غلالة الرطانة اليسارية التي تبناها حزب البعث الحاكم خصوصاً بعد انقلاب 1966، والقراءة الدقيقة للحظة السياسية بعد نهاية حرب الاستنزاف ووفاة جمال عبد الناصر ومعارك أيلول (سبتمبر) 1970 في الأردن. لحظة لمس فيها حافظ الأسد أفول مرحلة وبداية أخرى فانتهز الفرصة و «صحّح» ما رآه اعوجاجاً في مسيرة الحزب والثورة.

لكن ذلك لم يكن برقاً في سماء صافية. والمقدمات التي أفضت إلى أحداث تشرين الثاني (نوفمبر) 1970، لم تبدأ بمجيء البعث إلى السلطة في الانقلاب الأول عام 1963، على ما يرغب في التأكيد العديد من معارضي حكم السلالة الأسدية اليوم. ولم تبدأ في الانفصال عن الجمهورية العربية المتحدة أيضاً.

وفي الصراع على تاريخ سورية، ثمة ما يدعو إلى تجاهل الأسس الهشة للكيان السوري الذي تشهد الاتفاقات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى على سيولته وسمته المطاطة، على غرار كل الكيانات المقترحة آنذاك في المشرق العربي. بين اتفاق «سايكس- بيكو» ومعاهدتي سيفر ولوزان، تنقلت الحدود مئات الكيلومترات بين ما بات يعرف اليوم بتركيا والعراق وسورية ولبنان وفلسطين. ومعه تغيرت الموازين الديموغرافية والاقتصادية وعلاقات الطوائف والأعراق المختلفة، التي ظلت جميعها في حالة كمون إلى حين الاستقلال الذي وضع الكتلة المهيمنة في السلطة. وفي الحالة السورية، وجدت الكتلة هذه نفسها في أزمة كيانية دفعتها إلى السعي إلى الوحدة مع مصر الناصرية خشية السقوط في هاوية الحرب الأهلية.

وفي سياق عملية موازية كان مسرحها الأرياف وأهلها، وصل تفكك البنى التقليدية، التي يثور خلاف حول تاريخ انطلاقها، إلى مرحلة حرجة فرضت تغيير العلاقات القديمة بين المدينة والريف لمصلحة الأخير الذي نزل بثقله إلى مؤسسات الدولة الجديدة وأهمها الجيش، الذراع القوية في الصراعات الداخلية وفي عكس النزاعات الإقليمية والدولية.

يمكن الزعم أن «الحركة التصحيحية» سرّعت مسار التفكك الذي كانت سورية قد اتخذته منذ الاستقلال وصعود القوى الأشرس والأكثر شعوراً بالمظلومية والاغتراب بين الأقليات. المرحلة الثانية من «تصحيح» الأسد الأب كانت بين نهاية سبعينات ومطلع ثمانينات القرن الماضي في الصراع الذي شكل «الإخوان المسلمون» رأس الحربة فيه، حيث أعاد النظام جمع أشلاء البلاد بالقوة العاتية.

أما قرار النظام في 2011 باعتماد الحل الأمني والعسكري في مواجهة مطالب الحرية للمتظاهرين السلميين والدفع المتعمد في اتجاه الأسلمة والعسكرة، فيمكن وصفه بالمرحلة الثالثة من «الحركة التصحيحية» التي أسفرت عن تفكك أواصر الكيان السوري على نحو غير مسبوق منذ خروج قوات السلطنة العثمانية.