IMLebanon

العُقَد الثلاث.. والمخفي الأعظم

 

بين التفاؤل والتشاؤم بصدد تشكيل الحكومة، ضاعت الطاسة، وأضعفت حظوظ التشكيل القريب بالرغم من كل تصريحات وتلميحات التفاؤل، مع ازدياد مطرد للأخطار الداهمة التي تواجه الوضع الاقتصادي ومن خلاله الوضع الاجتماعي والمعيشي، المتراجع مع الأسف، وسط أمواج من الضغوطات مختلفة المصادر والتوجهات تدفع بالبلاد والعباد إلى أحوال من القلق مستمدة من التحرّكات الإجتماعية المطالبة بالحقوق والإستحقاقات، وتقلّصِ نسبة النموّ وأوضاع البطالة المتفاقمة لجموع المتخرجين من الجامعات، والمعانين من حلول العمال العرب والأجانب محل العامل اللبناني المنكفئ قسراً، في ما تبقى من ملاذات المجتمع اللبناني القادر على مدّ يد العون إلى فئات من اللبنانيين لم يكن يخطر ببالها ولم يكن يخطر ببال المجتمع اللبناني بأسره، أنها ستصل إلى حدودٍ معيشيةٍ كارثية كالتي وصلنا إليها في هذه الأيام.

لا ننكر في المقابل، أن البلد قد باشر في المدة الأخيرة جملة، من الخطوات الإيجابية، قاد معظَمها الرئيس سعد الحريري، وفي مقدمتها جملة من المؤتمرات ذات الطابع الإقتصادي والأمني وفي طليعتها مؤتمر سيدر، كما لا ننكر أن إجراءات الإنتخابات النيابية الأخيرة رغم الشوائب الكثيرة التي طاولتها، بدءا بتلك المآخذ التي تضمنها قانون الإنتخابات الذي داخلته بعض من النقاط والتوجّهات الإيجابية (النسبية)، وشوهته كثير من «الإختراعات» القانونية المصطنعة، والتي فرضتها ظروف ومطالب طائفية وفئوية (الصوت التفضيلي)، إلاّ أنه بمجمله كان خطوة باتجاه الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي، فلم يكن معقولا ولا مفهوما من قبل المجتمع الدولي المتأهب لتقديم المعونات المختلفة التي أقرها في مؤتمر سيدر، في وقت حُرّم فيه على المجتمع اللبناني إجراء انتخابات لمجلس نيابي يعتبر مجرّد وجوده، سمةً من سمات النظام الديمقراطي، ومعْلَما من معالم الحياة الطبيعية المستقرة.

ونعود إلى مؤتمر «سيدر» الذي وقّع أركانه مع الحكومة اللبنانية تلك الإتفاقات والتعهدات بتقديم قروض ومنح مختلفة إلى لبنان مع اشتراطٍ أساسي من قبل المجتمع الدولي المشارك فيه لتحقيق تعهداته، بأن تعمد الدولة اللبنانية، إلى تأمين نشوء حياة سياسية واقتصادية سليمة، تؤمّن حماية الأموال المقترضة والممنوحة، من أحوال الفساد المعششة في صلب الحياة الإقتصادية والمؤسسات الحكومية مختلفة الاشكال والأنواع، ومن الطبيعي أن يأتي في طليعة هذه الشروط، تشكيل حكومة تمثل الدولة والتزاماتها تجاه أركان بعض المجتمع الدولي في مؤتمر «سيدر»، وها هي الأيام تمضي وسط تصريحاتٍ مختلفة الوجوه والإتجاهات، يغلب عليها التشاؤم مستندة في تشاؤمها إلى جملة من الشروط والعقد الموضوعة في وجه التأليف، من قبل القوى المختلفة التي يتشكل منها مجلس النواب المنتخب حديثا، أهمها تلك التي تدخل في إطار تحديد أحجام معينة لكل من التكتلات الكبرى، بدءا بعقدة المجتمع المسيحي والخلاف داخله حول أحجام ومراكز كل من فريقيه الأساسيين، التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، ومرورا بالعقدة الدرزية نتيجة لمطالبة الحزب التقدمي الإشتراكي بجميع المقاعد الوزارية الدرزية، وصولا إلى ما أسمي بالعقدة السنية والتي يطالب التيار الوطني الحر وحزب الله بتمثيل مجمل النواب السنة غير المنتمين إلى كتلة تيار المستقبل، والمرتبطين بفئات حزبية متلاقية مع النظام السوري، ولئن كان رئيس مجلس النواب، الساعي الدائم إلى لملمة الصفوف وتذليل العقد، يرى أن حلحلة العقدتين الدرزية والسنية أمر ممكن وقابل للتحقيق، فإنه، مع زعماء آخرين، يستصعبون حلّ المعضلة المسيحية، حيث برزت تصريحات عميقة الجذور عن بعض نواب القوات اللبنانية، استنتج البعض منها أن العقدة المسيحية لا تقتصر على معضلة الأحجام وعدد المراكز الوزارية والوزارات السيادية فقط، بل هي تعود في الأصل إلى اتفاق حاصل ما بين الرئيس عون وقائد القوات سمير جعجع، تم فيه مقابلة أمرين متواجهين متوازنين: لقاءَ موافقةِ جعجع وسعيه لإيصال الرئيس عون إلى سدّة الرئاسة، هناك أمور مركزية وأساسية تم التوافق عليها خطيا ما بينهما آنذاك، تتمثل في أمور عديدة عميقة الجذور وواسعة الأهداف، لم يتم نشرها حتى الآن في أي مجال إعلامي. من هنا فإن حلحلة هذه العقدة بمحطاتها ذات الوجوه والنقاط المتعددة، لم تتم حلحلتها حتى الآن، والثمن المدفوع من خلال هذا السد المنيع، يجعل من تأليف الوزارة أمرا معقدا ويكاد أن يكون صعب المنال في القريب العاجل، خاصة وأن هناك في الأجواء المسيحية من يصعّد في مواقفه ضد القوات ويسعى إلى أوحديةٍ قياديةٍ مسيحية ومساعيه الحثيثة إلى أن يكون بديلا عن الجنرال واستمرارا لشخصه، اذا ما طرأت أي ظروف عند انتهاء مدّة هذا العهد كليّا، أو جزئيا لأي سبب طارئ، علما بأن هذا الموقف يشمل في أوجهه الرئاسية كلا من النائب السابق سليمان فرنجية وأي طامح ماروني آخر قد يكون مطروحا بجدية للموقع الرئاسي.

يضاف إلى ذلك تلك المطالب التي يعلن عنها من حين لآخر من قبل مراجع عليا مسؤولة متجاوزة حدود النص الدستوري المعتمد بالإستناد إلى مقررات مؤتمر الطائف، وهي تغْرق في محاولات اعتماد أعراف جديدة تقلب المقاييس وتلغي ما أمكنها من صلاحيات رئيس مجلس الوزراء المناطة إليه مهمة تشكيل الحكومة بالتفاهم مع رئيس الجمهورية، دون أن يعطي «التفاهم» تفسيرات قلب وضع هذه الصلاحيات الدستورية رأسا على عقب.

وفي الانتظار، إن لم تتم حلحلة العقد الثلاثة وما يدور ويختلق حولها من إشكالات وفي طليعتها عقدة الأحجام والإتفاقات المسيحية ما ظهر منها وما بطن، كما وأن لم يتم إيقاف الجهات الساعية إلى المشاغبة وتعقيد الأمور وتكثيف أحجام التطلعات المستقبلية، فإن معاناة الرئيس المكلف ستستمر، وستستمر معها المخاوف الخطرة على الأوضاع العامة بما فيها الأوضاع الإقتصادية المهتزة، ومستقبل لبنان السيد الحر المستقل.

وبعد، هل نحن بصدد إمكانية إحياء مستجد ومتجدد لتكتل 14 آذار انطلاقا من مبدأ نظري يقول بأن هذا التكتل قد انتهى تنظيميا ولكن روحه الوطنية التي نشأت بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري لم تزل قائمة حتى الآن؟ سؤال سبق الواقع السياسي اللبناني أن وضعه خارج التوقع والإحتمال، فهل تجعله التطورات المستجدة في إطار التطورات التي قد تدفع بالحلفاء السابقين إلى تعديل الخريطة السياسية القائمة.