تُعتبر أزمة انتشار السلاح داخل المخيمات الفلسطينية من الأزمات التي تصنَّف بالمستعصية، فكل قرارات طاولات الحوار السابقة لم تجد حلّاً للقضية، في وقتٍ يعاني الفلسطيني واللبناني على حدّ سواء من قتال الفصائل المسلّحة التي تزرع الرعب في قلوب المواطنين.
هي بلدة المية ومية المسيحيّة، وكأنّ قدرَها أن تعيش دائماً تحت إرهاب السلاح المتفلّت والذي لم يعرف طريقه الى الحلّ بعد، فيما الدولة مشغولة عن الاهتمامات الأساسيّة وتخلّت عن جزءٍ من سيادتها.
دخلت بلدة المية والميّة، والتي تُعتبر من أكبر البلدات الكاثوليكيّة في لبنان، نفقاً مظلماً منذ أن وُجد مخيّم للاجئين الفلسطينيين على تلالها، وترافق ذلك مع انفلاش المسلّحين الفلسطنيين منذ ما قبل بداية الحرب الأهلية، إلى أن أتى التهجيرُ الكبير للبلدة عام 1985 بعد سقوط شرق صيدا.
تلك الحوادث ما تزال ماثلة أمام عيون أهالي البلدة، وقد علت صرخاتهم منذ أكثر من أسبوع مع اندلاع اشتباكاتٍ بين حركة “فتح” و”أنصار الله” في المخيّم، استمرّت تقريباً 3 أيام، كانت هي الأعنف منذ مدّة وتردّد صداها في أرجاء البلدة التي استنفر أبناؤها طالبين النجدة وإنقاذهم من هذا الكابوس.
العام 1991 حزم أهالي المية وميّة أمرهم وقرّروا العودة الى بلدتهم بعد انتهاء الحرب الأهلية واستلام الجيش اللبناني الأرض وانحسار المسلّحين الفلسطينيين داخل المخيمات، غير أنّ كلّ تلك الخطوات بقيت ناقصة لأنّ السلاح بقيَ بأيدي الفلسطنيين من دون ضوابط جدّية.
ويصف أحد أبناء البلدة المشهد بأنه “كالذي ينام وقربه توجد أفعى”، قد لا تؤذيك، لكنك لا تعرف متى قد تلسعك. ويضيف قائلاً: “نحن تهجّرنا وعدنا بشكل كثيف وأكثر من مسيحيّي الشوف، لا نريد أن نترك أرضنا وبيوتنا مجدّداً ونصبح لاجئين ونازحين، لذلك على المسؤولين السياسيين وضع حدّ لهذا الفلتان المستشري، فكيف يُعقل أن تقبل دولةٌ ذات سيادة بأن يتقاتل فصيلان مسلّحان على أرضها، وأن يرعبا أبناءها وهي تتفرّج ولا تتدخّل؟”
مَن يقصد المية ومية يشهد فعلاً على عودة المسيحيين الى قراهم، فتلك البلدة تُعدّ نحو 4500 نسمة والغالبية الساحقة من الكاثوليك، وقد وجّهوا نداءً إلى رئيس الجمهورية وقادة الأجهزة الأمنية وعلى رأسهم الجيش، والى البطريرك لكي يتحرّكوا ويضعوا حدّاً لمآساتهم، وهم في المقابل ينتظرون من هذه الفاعليات التحرّك.
ومع ارتفاع منسوب الاشتباكات، تحرّك راعي أبرشيّة صيدا ودير القمر للروم الملكيين الكاثوليك المطران الياس حدّاد، وتواصل مع القيادات السياسية والأمنية والسلطة الفلسطينية في محاولةٍ لطمأنةِ الأهالي وعدم دفعهم الى ترك بلداتهم.
ويؤكّد حدّاد لـ”الجمهوريّة” أننا “لن نترك أرضنا مهما زاد الخطر وتطوّرت الاشتباكات، فالأهالي عادوا الى بلدتهم لأنهم أبناء هذه الأرض، لكن على الدولة أن تحزم أمرها ولا تترك الأمور سائبة، فلا يجوز كلما تقاتل فصيلان أن ندفع الثمن ولا ننعم بالأمن والاستقرار”.
ويأتي تحرّك المرجعيات الدينية والمحلّية والسياسية بعدما تفاقمت الأمور نحو الأسوأ، وقد شهدت البلدة عدداً من الزيارات وخصوصاً من الأحزاب والفاعليات المسيحيّة.
وفي السياق، سيقوم وفدٌ من بلديّة المية ومية والمخاتير والكهنة بزيارة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في قصر بعبدا اليوم لطرح القضية ومحاولة إيجاد حلول.
ويشدّد رئيس بلدية المية ومية رفعت بو سابا في حديث لـ”الجمهوريّة” على أنّ التواصل مع المرجعيات الأمنية والسياسية مستمرّ، وزيارة بعبدا هي لشكر الرئيس عون على تحرّكه السريع وبحث وضع مخيّم المية ومية.
ويؤكّد بوسابا أنّ الجيش اللبناني ينتشر في البلدة بكثافة، وبالأساس هناك ثكنة دائمة ونحن نراهن على دور الجيش لعدم تفاقم الأمور سلباً. ويضيف: “بلدتنا تعاني منذ مدّة، وهناك قلق دائم وخوف على المصير، ويكفينا ما عشناه سابقاً من تهجير وحروب وأزمات، ونطالب الدولة بأن تلتفت إلينا لأننا مواطنون لبنانيون”.
وما يزيد الوضع خطورة هو أنّ مخيّم المية ومية ملاصق لمخيّم عين الحلوة، ما يجعل التواصل موجوداً في أيّ لحظة، خصوصاً أنّ حركة “فتح” التي تشكّل السلطة السياسية الفلسطينية لا تسيطر بالكامل على المخيمات، وسط وجود عدد كبير من الفصائل الإسلامية ولعلّ أبرزها “انصار الله”.
وقد جرت إتصالات بالسلطة الوطنية الفلسطينية وبالسفارة الفلسطينية وبحركة “فتح”، لكنّ الأمور لم تصل الى خواتيمها السعيدة بعد.
وفي السياق، يشير نائب المنطقة ميشال موسى لـ”الجمهورية” الى أنّ الوضع مستقرّ لكن هذا لا يعني أنه سيستمرّ لأننا لا نعرف متى قدّ تنفجر.
ويعتبر أنّ أزمة المية ومية تأتي ضمن سياق الأزمات التي تعانيها المناطق التي تقع في جوار المخيمات، وهذا الأمر ينطبق أيضاً على عين الحلوة، لافتاً الى أنّ حلّ أزمة المخيمات يحتاج الى قرار كبير، ونحن سنتابع الموضوع بإلحاح.
ووسط هذه الأجواء، انتشر الجيش اللبناني منذ صباح أمس في مخيم المية ومية وعلى مداخله، بعد تذليل العقبات التقنية واللوجستية والإتفاق مع قيادة قوات الأمن الوطني الفلسطيني في المخيم.
وتضمّنت عملية الانتشار، تمركز الجيش في نقاط رئيسة بدأت على مدخل المخيم الجنوبي الغربي، وتموضع على نقطة حاجز “الكفاح المسلّح” التابع لقوات الأمن الوطني “فتح” بعد إخلائها، تبعه انتشار في محيطها. ثم استكمل تقدّمه إلى وسط المخيم عبر قوة أخرى تسلّمت موقعاً متقدماً يشكّل رابطاً لشارعين أساسيّين داخل المخيم، فيما تمركزت وحدات في نقاط أخرى من الجهتين الشمالية والشرقية، بهدف ضبط الوضع الأمني والإمساك بزمام الأمور.
قد يكون اللبناني لا يتعلّم من تجارب الماضي، حيث يؤكد عدد من فعاليات المية ومية وبلدات شرق صيدا وجود عدد كبير من النازحين السوريين الذي قطنوا المنطقة، ويحصل تواصل بين عدد من السوريين والمخيمات، وهذا ما يظهر من إلقاء الأجهزة الأمنية القبض على المطلوبين.
وبين انتظار الحلّ الجذري للسلاح الفلسطيني، ورغبة الأهالي بالعيش في سلام، يبدو أنّ الحلّ ما يزال بعيد المنال مع عدم وجود قرار سياسي ونيّة بختم هذا الملّف الذي دمّر لبنان وكان أحد أهم أسباب اندلاع الحرب الأهلية.