IMLebanon

العرس البعلبكي التراثي: تاريخ الجدود وأصالة الماضي

 

المختار لوالد العروس: “طالبين القرب منك وطالبين إيد بنتكم لإبننا”

 

 

يرتبط إسم مدينة بعلبك بالعديد من المواضيع التراثية والشعبية، كالدبكة البعلبكية والعرس البعلبكي، إضافةً إلى الصفيحة البعلبكية وغيرها من الأمور البعيدة من الحداثة والمرتبطة بالتراث، حتى اصبحت معالم تميز هذا المجتمع عن غيره، تصارع كل جديد من صرعات وقتنا هذا، تحافظ على التقاليد والعادات، وتعيد إلى المجتمع الالفة والمحبة التي تُفتقد يوماً بعد يوم.

 

بعيداً من صخب الحياة ومصاعبها وشجونها، وبالرغم من الضغوطات الإقتصادية التي يعاني منها معظم اللبنانيين، لا يزال العرس البعلبكي يحافظ على رتابته وخصوصيته ويكون فرصةً للتلاقي يجتمع فيها الأهالي من مختلف الطوائف والفئات، تقيمه معظم العائلات البعلبكية، وأهمها عائلة آل الصلح حيث أصبح مرآة الأصالة المفقودة، يقصده الجميع للفرح، تتصافح فيه الأيادي من دون ضغائن وحقدٍ وكره، وينتظره الصغير قبل الكبير للرقص ودبكة “العرجة” المتميزة بنقلاتها الرزينة وأسلوبها الرصين.

 

حكاية العرس البعلبكي تبدأ مع طلب العروس، فهي وظيفة وجهاء الحي والمختار، يقصدون منزل أهلها، وبعد الأحاديث والمجاملات يقف المختار وسط الحضور موجهاً حديثه لوالد العروس قائلاً: “نحنا طالبين القرب منك، وطالبين إيد بنتكم لإبننا”، ليردّ والد العروس: “ونحنا عطيناكم إذا الله عطى”، لتعلو بعدها الزغاريد من غرفة النساء إيذاناً بإقتراب الفرحة الكبرى ألا وهي العرس.

 

وبعد أيام أو أشهر على فترة الخطوبة يحدّد موعد العرس وتبدأ التحضيرات، والبداية تكون بالعزيمة للعرس حيث تقسم إلى قسمين: الأول بطاقات الدعوة المعروفة التي توزع على الأبعد مسافةً، والثانية تطوع عدد من الشباب والشابات لعزيمة الأقارب وسكان الأحياء، حيث لا تترك عائلة أو حي إلا ويدقّ بابه بكلمة: “شرفونا على عرس فلان وفلانة عقبال الأفراح عندكم”. وبعد الإنتهاء من العزيمة والتي يكون فيها تم تحديد موعد العرس، يبدأ اليوم الأول للعرس والمسمى “الحنة”.

 

ليلة “الحنّة”

 

ليلة الحنّة في العرس هي من أطول الليالي وتستمر حتى ساعات الفجر على وقع الأغاني التراثية وأهازيج الدبكة، يلتمّ الشباب والشابات تحت سقف الخيمة التي شيدت وسط ساحة الحي، ووضعت فيها الكراسي لإستقبال الناس التي تبدأ بالذهاب عند السابعة مساءً، يستقبلهم أهل العريس ويجلسونهم في المكان المخصص، يقدّمون القهوة المرّة والدخان والماء والنراجيل للمدعوين خلال فترة السهرة، فيما شاعر الحفلة يُرقّص الناس على وقع الأغاني الشعبية والتراثية والمواويل والعتابا، الممزوجة بالدبكة البعلبكية الأصيلة حتى ساعات الليل المتأخرة، أما عازف الطبل فهو يتنقّل بين الضيوف و”الدبيكة” يملأ النفوس طرباً وفرحاً. وبعد منتصف الليل يدخل “صدر الحنّة” المحمول على الأكف والمزيّن بالشموع والورود من قبل عدد من الشبان في “عراضة” شعبية، حيث يجلس العريس وسط الساحة ويقوم كبير العائلة بلفّ الخنصر بالحنّة على وقع تنشيدة: “عريس عريس مدّ الكف وتحنّا، وبحياة عمرك لا تزَعِّل حدا منّا”، وبعد الإنتهاء يوزع العشاء على المدعوين، وهو عبارة عن أطباق من الكبة النية والخضار، وتنتهي حفلة الحنة بخطيفة العريس إلى منزل أحد أقربائه أو رفاقه.

 

“الحلاقة والتلبيسة والزفّة”

 

عند العاشرة صباحاً في اليوم التالي، يقصد الشباب منزل خاطف العريس حيث تكون مائدة الفطور البعلبكي التقليدي جاهزة لإستقبال الشباب، وبعد إنتهاء الفطور يتوجه العريس مع الشباب محمولاً على الأكتاف إلى منزل أهله في “عراضة” يشارك فيها الكبار والصغار، تتقدّمها الخيالة وعلى طول الطريق تتساقط على رؤوس العريس والشباب حبوب الأرز ونثرات الورود التي تكون نساء الحي قد جهّزتها لرشّها على العريس خلال مرور العراضة من أمام منازلهن لحين وصوله إلى منزل والده، حيث تقام حلقات الدبكة وتوزّع الضيافات على الشباب، يأخذون قسطاً من الراحة قبل إرتداء “بدلة العرس” و”جلوة العريس والحلاقة”.

 

وكما الحنّة وفي وسط الساحة، يتحلّق الشباب حول العريس ويجهز للحلاقة على وقع تنشيدة: “عريس عريس تحت الجوز حلقولوا، وولاد عمو عالحمرا شدّولوا”، وبعد الإنتهاء من الحلاقة يقيم الشباب حلقةً حول العريس ويقومون بتغيير ملابسه ويلبس بدلة العرس مصحوبةً بالزغاريد وأنشودة: “يسعد مساك يا أبو طقم ليموني، ولما هويتك كل الناس لاموني، ولو قطعوني قطع وألواح صابوني، ما بحيد عن عشرتك لو باللحد حطوني”.

 

أما الوليمة فهي اساس العرس وفيها يُضرب المثل، حيث تبدأ تحضيراتها منذ الصباح، وتجهّز الخواريف، وتتوزع النساء كل واحدةٍ بحسب دورها، عشرات “الحِلل والدسوت النحاسية” تغلي على نار الحطب، يُطهى فيها الأرز واللحم وبعض الأكلات الشعبية، وحين تدق ساعة الغداء ترى الشباب كخلية نحل يفترشون الطاولات ويزينونها بمناسف الخضار وتتوسطها مناسف اللحم والأرز، وبعد الإنتهاء من الطعام يدور حامل “مصب القهوة المرة” على الضيوف بجولة ضيافة قبل التحضير للزفّة.

 

وعند السادسة مساءً، تتجهز فرقة الخيالة ويعتمر العريس العباءة فوق بدلة العرس وتتوجّه العراضة من كبار القوم والمختار إلى منزل والد العروس حيث يقام عرس النساء، وبعد رقصة للعريس مع عروسه يتقدّم المختار للإستئذان من والد العروس: “عن إذنكم يا جماعة هيدي بركة منتبارك فيها”. وبعد تقبيل يد أبيها، ترخي العروس طرحة فستانها الأبيض على وجهها وتغادر منزل أهلها والبكاء بادٍ على وجهها ممزوجاً بالفرح، تدخل منزل العريس بالزغاريد، تنتظر “خلعة باب الدار” التي يقدمها والد العريس وهي عبارة عن مبلغ مالي، ثم تقوم بوضع “الخميرة” على باب منزلها، وتجلس بقرب عريسها على “المرتبة”، ليبدأ “النقوط” على العرسان، وهو عبارة عن هدية مالية أو ذهب من الأقارب والأصدقاء. وبعد الإنتهاء ينصرف المدعوون كل واحد إلى منزله، ووالد العريس يودّعهم بعبارات: “كفيتو ووفيتو يا جماعة، الله يقدّرنا على مكافاتكم وعقبال العايزين عندكم”، فيما يدخل العريس والعروس منزل الزوجية مختتمين هذا المشوار الطويل.