Site icon IMLebanon

المأساة ليست قدراً… بل قد توفّر فرصة استثنائية

 

 

بمرور شهر على بدء الانتفاضة الشعبية المباركة، يكون لبنان قد سجّل أرقاماً قياسية في تاريخه، شهر كامل متواصل من التظاهر في المناطق اللبنانية كافة، وإن بوتيرة متفاوتة، وإقفال للمصارف ثلاثة أسابيع من أصل أربعة، وتعطّل الآليات السياسية التقليدية من حكومة ومجلس نواب واستشارات وتكليف. تزامن هذه السوابق ليس صدفة، فإقفال المصارف نتيجة لأزمة مالية حادّة وغير مسبوقة، وبقاء الناس في الشارع هو أيضاً نتيجة للسبب نفسه. النتيجة الثالثة لهذه الأزمة، وإن كانت أقلّ بداهة، هي سقوط النظام السياسي القائم على تحالف وتحاصص ستة زعماء لأربع طوائف واستتباعهم لأخرى، سقوط من داخله، بفعل توقف الدفق في شريانه الأساسي، أي توقف دخول الدولارات إلى دورة التوزيع.

المهمّ هنا أن الإفلاس لم يحصل لأن الناس تظاهروا، أو لأن بعض السياسيين تلطّوا خلف المتظاهرين بعد أن استقالوا من مسؤولياتهم فيما غيرهم يكابر ويستنزف الناس بالتعب والتهديد، أو نتيجة تدخلات كل من طالت يده، وأطول يد اليوم في العالم وفي منطقتنا هي يد الهيمنة الأميركية، وشركائها الغربيين، وخاصة ذراعها المحلية إسرائيل، من دون أن يعني ذلك أن هذه التدخلات غير موجودة، فهي مقيمة ويسهل فعلها كلما كانت المجتمعات مقسّمة.

نحن في حركة (مواطنون ومواطنات في دولة) نرى أن هذا المفصل في تاريخ بلدنا دقيق جداً، وأنه مشوب بمخاطر كبيرة قد تؤدي إلى دمار المجتمع، لكنه يشكل في الوقت نفسه فرصة ثمينة لإجراء تصحيح تاريخي في مسارنا السياسي، من خلال وضع أسس صلبة لدولة فعلية، أي دولة مدنية، الوحيدة القادرة على حماية المجتمع، أي الجميع.

ولأن المفصل تاريخي ودقيق، فلا بدّ من تناول الأمور التي تُعتبر شائكة في المشهد السياسي اللبناني بوضوح كامل، بدءاً بالملحّ منها، أي الأزمة المالية المتدحرجة، وصولاً إلى أصل المأساة التي تتكشّف اليوم، أي تشكّل السلطة من المجتمع، من دون إغفال المسائل الخلافية التي يبدو المجتمع وكأنه منقسم حيالها، فيغفل عن عوارض آفاته وعن أسبابها معاً.

 

الدولة أداة وحاجة

ما هي هذه الدولة؟ كيف تكون لديها القدرة والمنعة لتواجه الإرث اللعين: الإفلاس والتفتّت المجتمعي في الداخل، والرهانات والتآمر والعداون من الخارج؟

ماذا يعني أن تكون الدولة قوية؟ يعني أن تحظى بالشرعية الكافية في نظر مواطنيها ومواطناتها كي تؤطر مواردهم من دون كلفة التردد أو الانكفاء أو الرشوة أو القمع.

كيف تُنشأ دولة قوية؟ هنا أيضاً الموضوع ليس موضوع عقائد ولا إيديولوجيا. إنّما هو موضوع وقائع وحاجات.

إذا كان البلد مجتمعه متكتّلاً حول عقيدة قومية أو إن كانت غالبيته تتبع الدين نفسه أو إن كانت القوى العسكرية متماسكة حول عصبية شديدة، يمكن الدولة أن تستعير شرعيتها من القومية أو من الدين أو من الجيش. من حولنا دول من كل من هذه الأنواع. مرة أخرى، مجتمعنا بواقعه لا يستطيع أن يُعطي شرعية لسلطة على هذه الأسس. الطريقة الوحيدة في لبنان لتكون فيه دولة فعلية، هي اعتماد شرعية سياسية هي بالتحديد الدولة المدنية، أي النقيض الساطع لائتلاف المكوّنات والطوائف.

 

ماذا تفعل هذه الدولة؟ كيف تواجه الوقائع؟

لن نتكلم في النظريات، بل بشكل بسيط ومن دون الغرق في تفاصيل تقنية معقّدة.

المطلوب حكومة تدير الإرث اللعين من خلال مرحلة انتقالية أصبحنا في خضمّها، إنما نتخبط فيها من دون هدى. نريد إدارتها بشكل هادف. هذه الحكومة تكون لديها صلاحيات استثنائية تشريعية لفترة 18 شهراً حتى تستطيع مواجهة الواقع، وأكرر، الإرث اللعين.

 

كيف تتصرّف؟

 

المرحلة الأولى: الإقرار بالواقع ومعرفته

خلال فترة أولى، أسبوعين أو ثلاثة، تقوم الحكومة بجردة دقيقة لمعرفة حجم الأموال التي ما زالت متاحة فعلياً للدولة وللنظام المصرفي. لا تنغشّ ولا تغشّ بإعلان احتياطي شكلي ولا بسيولة مزعومة ولا بهندسات اصطناعية ولا بعمليات تزوير لنشر موازنة من دون عجز، في حين يعمّ الخراب الإدارات والمؤسسات والأسر. نريد أن نعرف الذهب أين صار؟ كم منه متاحٌ فعلياً؟

بموازاة هذه الجردة للموجودات المتاحة فعلياً، يتوجّه عدد من السفراء فوق العادة، الموثوقين إلى أبعد حد، للتفاوض مع الدول، القريبة والبعيدة، والمؤسسات الدولية، التي لها اهتمام بلبنان، يعني، من دون سذاجة، التي لها مصالح فيه. تفاوض اقتصادي ومالي إنما أيضاً وحكماً تفاوض سياسي، لنعرف بشكل محدد ما هو مقبول منا ومُتاح من الخارج مالياً وعينياً وتجارياً، ووفق أية شروط.

خلال هذه الفترة، تكون الحكومة من خلال صلاحياتها التشريعية قد علّقت مفاعيل كلّ العقود المالية.

نأمل أن تؤول هذه الجردة إلى نتيجة تفسح للحكومة مجالاً مريحاً للحركة، وإن كنا لن نتفاجأ إذا أتت نتيجتها غير سارّة. لماذا؟ لأن المكابرة التي طالت لسنوات عديدة، تحت شعار شراء الوقت، قد زادت الأعباء وراكمت الخسائر. قبل ستة أشهر كان الوضع أفضل من اليوم، فكيف منذ ثلاث سنوات، وهو اليوم أفضل مما سيكون عليه بعد شهر.

 

المرحلة الثانية: ضبط مفاعيل الإفلاس

على أساس نتائج هذه الجردة يتمّ الانتقال إلى مرحلة ثانية، ومدتها من ثلاثة إلى ستة أشهر. خلالها، تتولى أجهزة السلطة التنفيذية بصلاحياتها التشريعية مراقبة كلّ التطوّرات المالية والاجتماعية والأمنية يوماً بيوم وساعة بساعة، لتواكبها بمروحة من الإجراءات الفورية التي تتدرّج مضامينها بحسب هذه التطورات، والتي لا يجوز إخضاعها لهدر الوقت وللمناكفات في المجلس النيابي أو في حكومة لأعضائها مرجعيات طائفية منقسمة ومرتبكة.

تندرج الإجراءات في محورين، يترجمان معاً مبدأ التوزيع العادل للخسائر:

العدالة الاجتماعية أولاً. نحن أمام خسائر متحقّقة بات التستر عليها وتعظيمها جريمة. لا بد من توزيعها، وهذا ما يحصل حتماً، إنما توزيعها توزيعاً عادلاً، على عكس ما يجري حالياً. حتى التوزيع العادل ليس شيئاً حلواً، بل هو شيء مرّ. التوزيع العادل يعني أن كل الناس لن يتحملوا العبء نفسه، هناك من يستطيعون تحمّل أكثر، هناك من يجب أن يُحمّلوا أكثر لأنهم تطاولوا على أموال الناس، أي ما يُسمى المال العام، وعلى البيئة الطبيعية التي أمعنوا فيها تسليعاً وتدميراً. إنما هناك من لا يستطيعون تحمّل أية خسائر أبداً، لا بل يجب تأمين حقوق لهم حتى لو زادت الأعباء على آخرين. من هنا سوف تعمد الحكومة بصلاحياتها التشريعية إلى إرساء التغطية الصحية الشاملة لكلّ المقيمين ومجانية التعليم الأساسي، ليس فقط لتأمين تماسك المجتمع بل لتحصين كرامة الناس فيه، وتثبيت شرعية الدولة والحاجة إليها.

العدالة الاقتصادية ثانياً. فتوزيع الخسائر، الظاهر منها والذي ما زال مستتراً، يجب أن يحمي المقدرات الاجتماعية والاقتصادية لما بعد الأزمة. تقوم الحكومة، بمراسيم اشتراعية وبناءً على ما آلت إليه الجردة داخلياً وخارجياً وبما يحصل من تطورات، بإعادة هيكلة كلّ العلاقات المالية والاقتصادية في البلد، لأن المسألة لا تتوقف على دين عام وودائع. الناس تربطهم علاقات تجارية في الداخل ومع الخارج، لا بد من ترتيبها كي لا تُفقد المواد والموارد وتتدحرج النزاعات، وهم يدفعون ويقبضون الإيجارات، ويعتمدون على الأجور، الأموال المتوجبة التي لم تُدفع للمؤسسات الضامنة من ضمان اجتماعي وغيره منذ سنين، وما بقي لديها من أموال معرّض لخسائر جارفة، وكذلك المدّخرات الإلزامية التي جُمعت بصناديق النقابات المهنية من معلمين ومحامين وأطباء ومهندسين وغيرهم… التقنيات عديدة وتتوقف حدتها على ما تكشفه الجردة من وقائع وما تفسحه من مجالات. وهي تشمل تغيير الآجال والشروط القانونية وتراتب الحقوق والمخاطر ومعدلات الفوائد والعوائد والقيم النقدية وعملات الاحتساب. بعض هذه التعديلات يكون نهائياً وبعضه مؤقتاً وبعضه مشروطاً.

لا يخفى على أحد، مركزية دور الإدارة، بمعناها الواسع، في هذه المرحلة والمراحل القادمة، ولذلك في بداية هذه المرحلة تتم تعيينات إدارية وقضائية وأمنية بمؤهلات قادرة على مواكبة هذا المشروع السياسي في مفاصله كافة.

 

المرحلة الثالثة: تكوين مجتمع متماسك واقتصاد ذي مناعة وعلاقات متوازنة مع الخارج

بعد الإقرار بالواقع ومعرفته، وبعد ضبط تبعات الإفلاس، يجري الانتقال فوراً إلى المرحلة الثالثة التي تهدف إلى إعادة تكوين مجتمع متماسك حول دولة ذات شرعية عوضاً عن ائتلاف الطوائف القلقة، واقتصاد ذي مناعة عوضاً عن اقتصاد الشحادة والكذب. لأن افتقاد تماسك المجتمع ومنعة الاقتصاد منذ السبعينيات هو بالتحديد ما آل، بعد الحرب الأهلية، إلى إقامة السلطة الفاشلة التي تتهاوى اليوم، وبسبب فشلها، إلى الإفلاس الذي تحقق منذ نهاية التسعينيات، والذي فرض واقعه اليوم، بعد طول مكابرة، والإفلاس هو الذي دفع الناس إلى الشوارع.

أهم من خروج الناس من الشوارع، ومن إدارة الإفلاس، التصدي لمسبّبات تعطل أدوات الدفاع عن المجتمع.

هذه المَهمة ليست مَهمة تقنيين وتكنوقراط، سوف يكونون بمثابة أقنعة لسلطة الأمر الواقع التي أدّت إلى كلّ الكوارث التي نشهدها. هي ترجمة لقرار سياسي تاريخي لا بد أن يكون محصّناً بشرعية صلبة عنوانها إقامة دولة مدنية. أول دولة مدنية في هذا الشرق.

 

المَهمة تندرج تحت ثلاثة عناوين:

من جهة أولى، تتولى الحكومة إرساء نهائياً لشرعية مدنية للدولة مع تعاملها الواقعي مع الطوائف بوصفها كيانات مجتمعية هي جزء من واقعنا، إنما من دون أن تمسّ بشرعية السلطة. ماذا نعني بذلك وكيف يتمايز كلامنا عن الكلام الذي بات متكرراً حول الدولة المدنية وتأليف لجان لتجاوز الطائفية وتأويل لنصوص مرتبكة من هنا وهناك؟

  1. 1. تقوم الحكومة أولاً بتعداد لكلّ المقيمين لنعرف من هم سكّان البلد الفعليون، مهنهم وعملهم وأين يقيمون، ويستكمل التعداد بالإجراءات اللازمة ليشمل اللبنانيين المهاجرين، كي يصبح التمثيل السياسي متصلاً فعلاً بأماكن إقامة الناس وليس بالروابط العائلية والطائفية، وكي تطال التقديمات من صنف التغطية الصحية المقيمين فعلياً، وكي يطال التكليف الضريبي جميع المقيمين على كلّ ما يحصّلونه من مداخيل سواء في لبنان أم خارجه.
  2. 2. يلي ذلك، بمرسوم اشتراعي، إصدار نظام موحّد للأحوال الشخصية. عملية التعداد لن تصنّف أحداً ضمن طائفة، إنما، بحكم الحرية المطلقة للاعتقاد، لكل من بلغ السن القانونية، من بعد هذا التعداد، أن يختار بين أن يكون مواطناً بالمباشر أو عبر الوساطة الطائفية، فيعلن طلبه الانتماء إلى إحدى الطوائف. وتتولى الدولة بالتالي حفظ حرية ممارسة الشعائر الدينية وحماية الطوائف من بعضها البعض. القانون الموحّد للأحوال الشخصية هو الذي يرسم الإطار لكلّ القوانين التي تطبّق على من اختار أن ينتمي إلى إحدى الطوائف، وهو يسمو عليها في نظر السلطات العامة. لا يكتسب الإيمان الديني للمؤمنين حقاً معناه الأصيل إلا إذا كان قائماً على اعتقاد شخصي وقرار حرّ.
  3. 3. ثم تصدر الحكومة، بصلاحياتها التشريعية، قوانين الانتخاب النيابية والبلدية. يكون الاقتراع على أساس الإقامة الفعلية، ويكون لكل ناخب وناخبة في الانتخابات النيابية الحقّ بأن يختاروا أن يتمثلوا مباشرة من قبل مرشحين ومرشحات لا ينتمون إلى أية طائفة، أو بالمقابل أن يتمثلوا بمرشحين ينتمون إلى المنظومات الطائفية. وتوزع المقاعد بين التمثيل المباشر والتمثيل الطائفي بحسب اختيار الناس. وتحفظ القوانين التوزيع الطائفي، أو التوازن كما يسمونه، بين الذين ينتخبون على أساس طائفي.

ومن جهة ثانية، تتولى الحكومة تعديل أسس النظام الاقتصادي الذي ترسّخ في البلد منذ الحرب الأهلية، إنما ليس بتكرار شعارات حول اقتصاد ريعي واقتصاد منتج وخلق فرص العمل وما إليها، بل بعمل منظم. النظام الاقتصادي يتحدد بتوزع القوى العاملة والرساميل بين القطاعات، وبمستويات كفاءتها تجاه الخارج. محرك العمالة والرساميل تتوزع بحسب الأسعار والكلف، ومن ورائها بالسياسات القطاعية والاستثمارات العامة وآليات التوزيع والأنظمة الضريبية. كل هذه المجالات سوف تتناولها مراسيم اعتيادية ومراسيم تشريعية.

الأزمة هي تراجع مفاجئ في المداخيل الفعلية وفي الأسعار الداخلية معاً. التراجع الأول يهدد بالفقر والهجرة والثاني ببيع الأصول بأبخس الأثمان. مقولة إن «تصحيحاً تلقائياً» يحصل بحكم تقلص الاستهلاك وفق النهج النيو-ليبرالي ساقطة بالتجربة. كي لا يكون التكيّف تلقائياً فيعيد إنتاج أسباب الأزمة بعد تكبيد المجتمع خسائر إضافية، يتوجب اعتماد سياسات حاسمة خلال المرحلة الانتقالية، وهذا ما قصدناه لما قلنا بأن توزيع الخسائر يجب أن يكون عادلاً وإنما هادفاً أيضاً.

يهمنا ألا يهاجر الشباب، هذا لا يعني أن الأكبر سناً لا يهموننا بل إننا، أمام المفاضلة، نعطي أفضلية للشباب. يهمنا ألا تنهار المؤسسات القادرة على التصدير. يهمنا عقد اتفاقيات تجارية تعزز الطلب الخارجي على إنتاجنا من جهة وتعزز قدراتنا الإنتاجية. يهمنا أن يترجم تراجع أسعار الأصول المحلية خفضاً في كلف الإنتاج والمعيشة وليس تصفية للموجودات.

الانتقال من الاقتصاد القائم على تصدير الشباب والشابات والشحادة والارتهان إلى اقتصاد مقتدر لن يكون أمراً سهلاً. هناك ناس سوف يفقدون عملهم، وقطاعات كاملة تُصاب. الانتقال من مهن قطاعات إلى مهن وقطاعات أخرى ليس عملية ميكانيكية. بل هو يتطلب وقتاً واكتساباً لمهارات وتغييراً في أنماط العمل والعيش. نتكلم عن مجتمعنا، وعلينا أن نتعامل مع المجتمع الحقيقي، بشره، نسائه ورجاله، المتعلمين وغير المتعلمين، الفقراء والأغنياء، اللبنانيين وغير اللبنانيين أيضاً، لا أن نتعامل مع طوائف. هذا الانتقال يتطلب مواكبة دؤوبة وسوف يحظى بها.

من جهة ثالثة، تتولى الحكومة إقامة علاقات جدية مع الخارج بوصفه خارجاً. فالانتقال الذي تفرضه الأزمة على من يريد تخطي مفاعيلها وأسبابها يحتاج، لا سيما في بلد صغير، وطبعاً بحدة تختلف بحسب نتائج الجردة، إلى عقد علاقات اقتصادية ثابتة مع دول لا تناصبنا العداء ولا تسعى إلى تفتيت مجتمعنا وتهديد شرعية سلطتنا. فالاقتصاد سياسي بطبيعته.

 

الحَراك الشعبي هو ظاهرة رفض وإسقاط لشرعية نظام سلطوي تعثّر وتعطّلت أدواته الإجرائية

 

 

نعرف جيداً أنه يصعب على اللبنانيين واللبنانيات المنخرطين في الطوائف عموماً، وعلى زعماء الطوائف خصوصاً، تصور أننا في دولة تتعامل مع الخارج بوصفه خارجاً، بالقدر نفسه الذي يصعب عليهم تصور أن الداخل هو مجتمع واقعياً. فالطوائف هي في الأصل افتراق عن الواقع المجتمعي وعن مفهوم الدولة الذي من دونه لا معنى لداخل وخارج، وهي بشكل أدقّ انحراف عن العلاقة السويّة بين المجتمع والسلطة.

من منطلق اقتناعنا بالحاجة الوظيفية لدى مجتمعنا إلى دولة قادرة، ومن اقتناعنا بأن الدولة القادرة لا يمكنها أن تكون، واقعياً، إلا دولة مدنية، سوف نتناول المسائل السياسية الشائكة التي ترتكز على علاقات بالخارج في حين تبرز على شكل انقسامات داخلية، تحت أربعة عناوين: العداء لإسرائيل وسلاح حزب الله والعلاقة مع سوريا والبعد الإقليمي والدولي للتحول في لبنان.

 

مسألة العداء لإسرائيل

ليس العداء موقفاً لفظياً بل هو يرتب على من يلتزم به أعباء جساماً. ولا يكون العداء جدياً إن لم يكن مبرراً بأسباب وأهداف. نحن، في حركة «مواطنون ومواطنات في دولة»، نعتبر الكيان الصهيوني تجلياً مباشراً للإمبريالية وقائماً على تأدية وظيفية حيوية لها في المنطقة عبر تجنيد طاقات اليهود عالمياً ضمن مشروع عنصري ديني عدواني. عداؤنا له لا يتوقف على مساحة محتلة من الأرض، قد تسوى، أو على ظلم إجرامي ألحقه بالشعب الفلسطيني، الذي قد يرضخ بعض ممثليه للقهر فيسلمون به، بل هو ينبع من كونه، كمشروع سياسي في الأساس، يعارض شرعية الدولة التي وحدها تستطيع تأطير مصالح مجتمعنا. وهو بالتالي عداء أصيل. المشروع الصهيوني يتعامل مع المجتمعات عموماً بوصفها طوائف وشبكات سلطوية، ويتعامل مع منطقتنا بوصفها ممرات استراتيجية ونفطاً، ويثابر على دكّ الشرعية الداخلية للأنظمة، ولا سيما التحديثية الوطنية، وعلى تعزيز العصبيات العنصرية فيها (وحتى في المجتمعات الغربية)، وعلى ابتزاز الأنظمة ومصالح حكامها.

 

مسألة «سلاح حزب الله»

نحن نعتبر أن الكفاءة القتالية العالية، وليس السلاح الذي هو بضاعة تباع وتشترى، التي راكمها لبنانيون ولبنانيات في المقاومة ضد العدو الإسرائيلي، وأبرز عناوين هذه المقاومة هو «حزب الله»، تشكّل رصيداً كبيراً للبنان ولا يجوز التفريط بها ولا المساومة عليها، والنقاش فيها يجب أن يتمحور منذ اليوم الأول حول انتقالها، مع الحفاظ على فعّاليتها، من مقاومة «طائفة» إلى منظومة وطنية، عسكرية طبعاً، ولكن أيضاً اجتماعية واقتصادية، تتوزع أعباؤها على الجميع كما يعود نفعها إلى الجميع.

 

المكابرة التي طالت لسنوات عديدة، تحت شعار شراء الوقت، قد زادت الأعباء وراكمت الخسائر

 

 

مسألة العلاقة مع سوريا

لم تكن العلاقة بين الجمهوريتين اللبنانية والسورية سويّة في يوم من الأيام منذ استقلالهما عن المنتدب-المستعمر الفرنسي. وقد سارتا في اتجاهين مفترقين منذ ذلك الحين، على الصعد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، نتيجة اختلاف بنيتهما الطبقية ومواقع السلطة في كل منهما. فتعدّلت بنية المجال وضعفت الروابط التجارية بينهما وباتت مبادلاتهما السلعية والخدمية هزيلة بينما ارتفعت وتائر انتقال العمالة والرساميل. مارست سوريا هيمنة سياسية وعسكرية مباشرة على لبنان طوال 30 سنة. أما اليوم، وقد نزح إلى لبنان ما يقارب مليون ونصف مليون سوري وتمزق المجال السوري داخلياً وتحول إلى ساحة صراع دولي، فقد بات كل من المجتمعين مشوّهاً في توازناته الداخلية. من هنا تصبح عمليتا إعادة الإعمار في سوريا وتخطي الإفلاس في لبنان بحاجة إلى إدارة التشوّهات الاجتماعية والاقتصادية في كل منهما تكاملياً، ولتعزيز وزن سوقيهما بالمطلق وتجاه الخارج. وهذا لا يكون إلا على أساس قيام دولة فعلية، مدنية ومقتدرة في لبنان تشكل سنداً لمشروع مماثل ومتكامل في سوريا.

 

البعد الإقليمي والدولي للتحوّل في لبنان

مشروعنا السياسي الذي نطرحه اليوم واضحاً مفصلاً، هو مشروع إنقاذ للبنان، ولكنه أيضاً مشروع على صعيد المنطقة، التي تعيش واحدة من أسوأ تجاربها من حروب أهلية وانفجارات اجتماعية وتشظّي بناها ودولها. إن مشروع الدولة المدنية في لبنان وفي المنطقة، بدءاً من سوريا ومن العراق، حصانة للمجتمعات من الطغيان الداخلي والحروب الأهلية وحماية من الهيمنة الخارجية الحاضرة دائماً، وهو النقيض الجوهري للمشروع الصهيوني. هذا البعد الإقليمي مسؤولية لبنانية لا تنبع من أفضلية لبنانية بل من كون لبنان قد عاش الحرب الأهلية وخبر تسلط زعامات الحرب بعد نهايتها قبل دول المنطقة بثلاثة أو أربعة عقود، لكن هذا البعد الإقليمي يوفر بالمقابل لمشروع الدولة المدنية العادلة والقادرة في لبنان زخماً إقليمياً كبيراً. وهذا البعد، إذا تم تثميره سياسياً مؤهّل لإعادة الإقليم إلى لعب دوره الطبيعي في العالم وإلى إعادة التوازن إلى المنطقة عوضاً عن استباحتها من قبل العدو الصهيوني والإمبريالية أولاً وتنازعها بين الدول الإقليمية الأخرى.

 

المرحلة الرابعة: انتخابات نيابية

مع نهاية الفترة الانتقالية، تُجرى انتخابات نيابية وفق القانون الانتخابي الجديد، فيتبيّن إلى أي حد يكون مجتمعنا قد ارتضى التضحية وليس الخسارة لأنه انخرط في مشروع افتقده هذا الشرق منذ عقود إن لم يكن منذ قرون.

 

* أمين عام «مواطنون ومواطنات في دولة»

 

كيف يحصل الانتقال؟

يطرح الناس عن حق سؤالين: أين قيادة الحراك؟ وكيف يحصل الانتقال؟

من أي منطلق يأتي السؤالان؟ من قلق مزدوج من الحراك وعليه وعلى نتائجه، من هواجس مستحكمة في المجتمع بأسره، من يشارك في الحراك، ومن يقف جانباً، ومن ينتقده، على ضوء تجاربه المرة. هذه الهواجس ملازمة للطوائف، فالطوائف لا تتشكل إلا من الهواجس حيال سلطة خارجية بالنسبة إليها، وهي تنتج الهواجس بين بعضها البعض: سواء تلك الطوائف التي تَشعر بقوة في ظرف من الظروف وتُشعر باقي الطوائف بقوتها فتولّد قلقاً لديها ولكنها تصبح معرضة لتهديدات الخارج أو إغراءاته، أم تلك الطوائف التي تشعر بضعف فتذهب لتستعير قوة أو حماية من الداخل أو من الخارج. وهذا ليس عارضاً وليس خاصاً بهؤلاء أو أولئك، بل هو ترجمة لعلاقات السلطة في المجتمع، في لبنان وفي كل المنطقة (سوريا والعراق) وهو ما بنى المشروع الإمبريالي، من الاستعمار إلى الصهيونية، فعله على أساسه.

حول ما يُسمى «قيادة الحراك»، لا يخفى علينا أن أياديَ كثيرة تتدخل في مشهد الشارع، مباشرة أو من خلال وكلاء محليين، عبر التوجيه والتمويل والأخطر عبر بعض وسائل الإعلام، لا سيما المرئية منها، من خلال صناعة «رموزٍ» وتكريسها كعناوين «للثورة»، وهذا مسار بدأ خجولاً في انطلاق الانتفاضة، وكبر ويكبر يوماً بعد يوم، والأهداف منه تتراوح بين تصفية حسابات داخلية ضمن أطراف السلطة الساعية إلى التبرّؤ من الماضي والتموضع لما بعد الأزمة، وتعزيز حظوظ أطراف رأسمالية جديدة تسعى إلى الاستفادة من الإفلاس لتستحوذ على ما يتبقى من مقدرات البلد، واستهداف المقاومة بما هي مقاومة في وجه العدو الإسرائيلي، وليس بما هي حزب شيعي في تركيبة طائفية.

المقولات الرومانسية، سواء الساذجة أم الخبيثة، حول «قيادة الثوررة» تؤول إلى تفتيت الضغط الشعبي عبر تظهير وجوه رمزية لتغذية النزاعات ضمنه وبعثرة مقاصده، عبر طرح مطالب جزئية أو شعارات شعبية محقّة لكنها لا تصيب واقع ما نشهد وأسبابه.

الحراك الشعبي هو ظاهرة رفض وإسقاط لشرعية نظام سلطوي تعثّر وتعطلت أدواته الإجرائية. المسؤولية تجاهه تكمن في وضوح الطرح السياسي لنظام مغاير، انطلاقاً من المعرفة والجرأة وحرية القرار، وهذا ما نحرص عليه وما نطرحه اليوم.

أما حول الانتقال وكيفية حصوله، نقول أولاً إن الانتقال يجب أن يكون سلمياً، لأننا نعرف ما في هذا البلد وحوله. ماذا يعني هذا القول؟

يعني أن سلطة الأمر الواقع التي تعطّلت إجرائياً ما زالت مُمسكة بأجزاء كبيرة من مجتمعنا. الضغط عليها يجب أن يستمر، وهو مستمر بحكم تدحرج الإفلاس، الضغط بالحشر وبالتظاهر والوقائع، إنما الضغط أيضاً بوضوح الطرح السياسي البديل، يضع كلّ واحد من قياداتها، خمسة أو ستة أو سبعة، أمام مسؤولياته التاريخية، ويرسم أمامهم خياراً بين اثنين، بعدما يزول خيارهم الأفضل الواهم، أي استبقاء النظام الذي ألفوه: إما العنف والضياع وإما التفاوض على انتقال سلمي للسلطة إلى مرحلة انتقالية وفق صيغة سياسية محددة هي التي نطرحها في هذه الوثيقة.

نعرف كلّنا أوضاع بعضنا البعض، نحن جميعاً أولاد هذا البلد، نعرف مسؤوليتنا ونتحملها، نقبل بإدارة الإرث اللعين، نريد الانتقال السلمي، أي التفاوض، إنما على شروط هذا الانتقال، نحدد خياراتنا الأساسية ونبنيها على الحاجات الواقعية التي لا تلتبس حيالها الأسباب والنتائج، وإن لم تكن مطابقة للصور المألوفة لنظام السلطة منذ عقود، ولكن مسؤولية كل واحد منهم كبيرة جداً اليوم، وهي تتظهّر بسرعة مع سقوط مواقف الإنكار. السباق اليوم بين تيقّنهم لهذه المسؤولية وبين تدهور الوقائع المالية والاجتماعية والأمنية.

ولكون حزب الله هو القوة الأكبر اليوم، ولكونه مستهدفاً، نقول إننا نختلف مع حزب الله، بما هو حزب فاعل مشارك في السلطة، اختلافاً جذرياً في المقاربة السياسية الداخلية، ونرى أنه اليوم، إذ يتصدى بكل رصيده، وهو كبير، لحماية النظام السياسي المتهاوي، إنما يواجه ويمنع فرصة إنقاذ جدية للمجتمع. فهو الأقوى بين حلفائه، منه يستمدون قوتهم الانتخابية والسياسية، وإن كان صوتهم أعلى من صوته، ونختلف جذرياً مع هؤلاء الحلفاء كحركة أمل والتيار الوطني الحر. كما نختلف جذرياً أيضاً مع القوى التي تحاول مصادرة الشارع بعد أن قفزت من الحكومة بالاستقالة، ولكنها ما زالت في صلب السلطة السياسية من خلال موقعها الطائفي كالقوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي وتيار المستقبل.

كل من يرى أن المسؤولية اليوم عامّة، وأن مآسينا ليست قدراً، وأن المبادرة واجبة، نحن مستعدون للنقاش معه في هذا المشروع السياسي وحوله، وهذه مسؤولية الأحزاب والشخصيات والقوى التي ترى أن مستقبل هذا المجتمع مهدّد، ولكننا قادرون على المبادرة.

الإفلاس ومآلاته التلقائية

طالما حذّرنا من أخذ البلد إلى الإفلاس. اليوم أصبح الإفلاس أمراً واقعاً. لكن ما هو الإفلاس فعلياً؟ أو بداية ما ليس هو؟ الإفلاس ليس نهاية الدنيا، بل هو أزمة أو مفصل من مفاصل تاريخ المجتمعات، تتغيّر حكماً بنتيجة كيفية إدارته. كيف يتجلى الإفلاس؟

ببساطة شديدة، يحصل تدهور مفاجئ في القيمة الفعلية لمداخيل الناس ولمدّخراتهم، القيمة الفعلية أي ما يمكن شراؤه بهذه المداخيل وهذه المدخرات من السلع والخدمات، بمعزل عن تقلبات أسعار صرف النقد.

المداخيل تنخفض بسرعة هائلة نتيجة الإفلاس، إمّا بسبب إغلاق المؤسّسات أو تخفيض دوامات العمل لتخفيض الرواتب، من دون أن ننسى العمّال والعاملات الأجانب الذين هاجروا بلادهم بحثاً عن عمل، ولم يعوا لليوم أنه لم تبقَ دولارات في هذا البلاد ليحوّلوها إلى أسرهم. الإفلاس يصيب أيضاً المدّخرات المودعة في المصارف، فيعجز أصحابها عن سحبها أو الحصول عليها. والإفلاس يطال السلع والمواد الأساسية التي لا يعود المستوردون قادرين على تسديد أثمانها للموردين في الخارج حتى لو كان المستهلكون يملكون دخلاً أو حسابات في المصارف. وقد بدأت تشحّ أو تُفقد من الأسواق، وأخطرها المعدّات الطبية الأساسية التي أعلنت المستشفيات أنه لم يبقَ في مستودعاتها إلّا ما يكفي لشهرين، وهو ما سيؤدّي وفق المستشفيات نفسها إلى زيادة عدد الوفيات بمعدّل ألفي وفاة سنوياً.

هذا هو الإفلاس وهذه تداعياته. نصل إلى السؤال التالي: ماذا سيحصل إذا بقيت السلطة الفاشلة رازحة على كراسيها وعلى الصدور؟ عملياً، من يستطيع الهجرة سوف يهاجر، فلا يبقى سوى من لم يستطع للهجرة سبيلاً، وهؤلاء بغالبيتهم فئات تحتاج إلى التقديمات الاجتماعية والرعاية والحماية. وسيبقى أيضاً أصحاب الرساميل والمضاربون الذين ينتظرون الإفلاس بل يتلهّفون له، كي يبيع الناس ممتلكاتهم بأبخس الأثمان بغية تأمين مستلزماتهم الحياتية الأساسية، وتقوم الدولة أيضاً ببيع لممتلكاتها ومؤسّساتها المُنتجة لسدّ نفقاتها، ونذكّر هنا بما ورد في ما سمّي «الورقة الإصلاحية» عن بيع المطار والمرافئ وشبكتي الخلوي والميديل إيست وغيرها.

هذا تحديداً ما يتمّ الحديث عنه يومياً: تجهيز البلاد، التي لكلّ منا فيه تجارب وذكريات حلوة ومرّة، للبيع بـ«فرق عملة». وهذا ما كنّا نتخوّف منه منذ أربع سنوات عندما أطلقنا حركة «مواطنون ومواطنات في دولة».

هذا ما يحصل تماماً، لكن هل هو قدر محتوم؟ كلا. هناك بديل، والبديل هو الدولة. اليوم مجتمعنا، المواطنون والمواطنات فيه، بحاجة وظيفية، لا عقائدية ولا أيديولوجية، إلى حدّ أدنى من التماسك، وإلى أداة اسمها الدولة.