IMLebanon

مأساة التدافع أثناء الحج أبعد من إدارة وتنظيم

يصف القرآن الكريم ابراهيم عليه السلام بأنه خليل الله. وهي صفة يتفرد بها أبو الأنبياء. ويقول القرآن الكريم عنه:» هو سماكم المسلمين من قبل«.

ومما يؤكد على هذا الموقع السامي لابراهيم في الاسلام ان الحج الذي هو أحد أركان الاسلام الخمسة، يتضمن مناسك أول تضحية تعبدية لله تعالى، أسوة بما قام به ابراهيم استجابة لرؤيا دعته الى ذبح ابنه الوحيد اسماعيل زلفى وخضوعاً لله.

يتضمن اداء هذه المناسك دروساً وعبراً كثيرة نتوقف أمام اثنتين منها.

الدرس الأول الصراع بين العاطفة الانسانية الأبوية والإيمان المطلق بالله. فأن يبادر أب الى ذبح ابنه ولو تعبداً لله، هو أمر بالغ الصعوبة.. فكيف إذا كان الأب شيخاً.. وكيف اذا كان الابن هو وحيده وقد أنجبه عن شيخوخة؟ ولذلك كان طبيعياً أن يوسوس له الشيطان وهو في الطريق الى موقع الذبح، بأن يعيد النظر في استجابته لنداء ذبح ابنه، انقاذا له من الموت.. وإنقاذاً لنفسه من عذاب ما بعد الذبح.. غير ان ابراهيم عليه السلام تغلب بقوة إيمانه بالله على وسوسة الشيطان. وساعده على ذلك استسلام ابنه للإرادة الإلهية وخضوعه لها عن رضى واستسلام.. فتابع طريقه حتى وصل الى الموقع المحدد.

تمثل مراسم رجم الشيطان أثناء اداء ركن الحج هذه الواقعة. وهي تجري في موقع يقع بين مكة المكرمة وجبل عرفات، يُعرف بموقع منى.

فالاعتقاد العام هو ان الشيطان تعرض لابراهيم عليه السلام ثلاث مرات في هذا الموقع. وفي كل مرة كان ابراهيم يخرج من محنة الوسوسة منتصراً لإيمانه، وبإيمانه.

وعلى خطى ابراهيم، وأسوة بما فعله أبو الانبياء عليه السلام، يقوم المسلمون من حجاج بيت الله الحرام بمراسم رجم الشيطان ثلاث مرات.. وفي المواقع الثلاثة التي يعتقد ان الشيطان تراءى له فيها. 

طبعاً لا يتمظهر الشيطان ولا يتجسد في اي من هذه المواقع. فالشيطان الرجيم يوسوس في صدور الناس. وهو ليس مقيماً في موقع محدد.. انه فينا. غير ان البسطاء من الحجاج لا يميزون بين رمزية المكان وجوهر المراسم. فيعتقدون بأن الشيطان منتصب في المكان المحدد في منى. وانه يتلقى رجمهم عقاباً له. ولذلك فان البعض منهم يتصرف كما لو ان الشيطان هو العمود الحجري الذي جرى بناؤه ليدل الناس على الموقع المفترض.

يتجاوز بعض الناس الرمزية الى المادية. فيتصرفون وكأنهم ينتقمون شخصياً ومباشرة من الشيطان الرجيم الذي ضللهم أو ورطهم بارتكاب المعاصي والآثام في حياتهم الخاصة ؛ وهم يجدون في مراسم الرجم فرصة للاعتراف ولو بصورة غير مباشرة- بأخطائهم عن طريق رد فعل انتقامي شخصي حاد ضد الشيطان شتماً وقذفاً بالحجارة وحتى بالأحذية.

وغالباً ما يكون هناك آخرون من الحجاج يؤدون هذه المراسم الا ان من سوء حظهم انهم يتجمعون بين الموقع المحدد لرجم الشيطان وأولئك الناقمين الغاضبين عليه، فتصيبهم الحجارة خطأ وهذا أهون الشرين. اما الشر الأكبر فهو ان رغبة الناقمين في الوصول الى الموقع مباشرة لمواجهة الشيطان جهاراً ومباشرة للانتقام منه، يؤدي الى تدافع شديد يسقط بنتيجته ضحايا.. سرعان ما يثير سقوطهم الهلع فيتراكض الناس للابتعاد ؛ وتقع الكارثة على النحو الذي حدث هذا العام.. وفي العديد من الأعوام السابقة.

لا ينتظر الشيطان الرجيم تجمع قرابة ثلاثة ملايين مؤمن من كل أصقاع العالم ليرجموه في موقع منى على مدى أيام ثلاثة. انه يكمن لهم في بيوتهم ومكاتبهم ومشاغلهم، من جاكرتا في أندونيسيا حتى الدار البيضاء في المغرب.. ومن كيب تاون في جنوب افريقيا حتى بيونس ايريس في اميركا الجنوبية.

فالنفس الأمارة بالسوء تعني ان الشيطان كامن فيها. وان رجمه الفعلي يكون بالعمل الصالح على الصعيدين الفردي والجماعي.. اما رجمه الرمزي فانه مطلوب لمجرد التذكر بأنه كما لاحق ابراهيم عليه السلام فانه يلاحق كل واحد منا.. وانه كما تغلب ابراهيم عليه فان كل واحد منا قادر ايضاً على التغلب عليه.. وما رمزية رميه بالحصى الا للتعبير عن هذه المقدرة.

من هنا فان كل عمليات التوسعة التي كلفت المليارات من الدولارات، وكل الترتيبات التنظيمية لاداء هذه المراسم لا تكفي وحدها لضمان سلامة الحجاج مهما بذلت المملكة العربية السعودية من جهد. ولا تكفي كذلك محاولات فرضها بقوة الأمن أيضاً. ان معالجتها تكون بالتوعية الدينية التي يجب أن تقوم على أساس ادراك الحقيقة البسيطة التالية. وهي ان الشيطان لا ينتظر الراجمين في موقع منى.. وانه ليس هناك حصراً ولكنه اقرب الينا من ذلك بكثير. انه في نفس كل انسان.. ومقاومته تبدأ بمحاسبة الذات، وبالتعهد أمام الله بعدم ارتكاب المعاصي ثانية.. اما الرجم فانه مجرد عملية رمزية شكلية «تفش الخلق» ولكنها لا تقوّم اعوجاجاً..

ثم ان تنظيم عملية الرجم تقوم على أساس تفويج الحجاج، أي تجميعهم أفواجاً أفواجاً لاداء هذه المناسك على دفعات وعلى مراحل. غير ان الأكثرية الساحقة منا نحن المسلمين من دول العالم الثالث حيث ثقافة الاصطفاف والتفويج هي ثقافة ضعيفة. فنحن نصطف بالعرض وليس بالطول. كل منا يريد ان يكون أولاً حتى على حساب الآخر. هذه الثقافة تتعارض مع مبدأ التفويج الذي تعتمده المملكة السعودية في تنظيم اداء مناسك الحج مما يؤدي الى التزاحم.. والتزاحم الى التجاوز.. والتجاوز الى المآسي المفجعة.

أما الدرس الثاني من اداء ركن الحج أسوة بإبراهيم عليه السلام فيتمثل في عملية التضحية. 

يتوقف عامة المسلمين أمام قوة إيمان ابراهيم عليه السلام بالمبادرة الى ذبح ابنه اسماعيل استجابة لرؤيا أمرته بذلك، ولكنهم نادراً ما يتوقفون أمام معنى فداء اسماعيل بذبح عظيم، كما ورد في الآية 37 من سورة الصافات .

فابراهيم عليه السلام بادر الى التضحية بأعزّ ما عنده، وهو ابنه الوحيد تقرباً الى الله وزلفى. ولا شك في ان في ذلك قمة التضحية.. وانه أعلى مراتب الامتحان لصدق الإيمان.

ولكن الله سبحانه وتعالى عندما يفدي اسماعيل عليه السلام فانه يقول لابراهيم.. ويقول لنا من خلاله، ان قمة التضحية، وأن أعلى مراتب الامتحان لصدق الإيمان به، يتمثل في المحافظة على النفس الانسانية. فالله يعلمنا بطريقة واضحة ومباشرة، ان التقرب منه لا يكون بقتل الانسان بل بإنقاذ حياته. وأن انقاذ الحياة الانسانية هو أفضل ما يقدمه انسان قربى الى الله وتعبداً له. أكد على ذلك فيما بعد، التشريع القرآني الذي يقول :» من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً.. ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً«..

كثير من حجاج بيت الله الحرام يقدمون التضحية ( خروفاً.. أو بقرة.. أو جملاً..) لوهب لحومها صدقة الى الفقراء والمحتاجين. ولكنهم غالباً ما لا يتوقفون أمام معنى هذه التضحية. فهي في اساسها لم تشرّع لتقدم كمساعدة للفقراء والمحتاجين، ولكنها شرّعت لتثبيت رمزية الفداء انقاذاً لحياة الانسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم وفضله على كثير ممن خلق.

وهنا أيضاً تضيع الرمزية في فداء اسماعيل عليه السلام لتصبح في حد ذاتها شعيرة من شعائر الحج معزولة عن المعنى السامي الذي تحمله الرسالة الإلهية بوجوب المحافظة على الحياة الانسانية واحترام كرامة الانسان.

لقد أصبحت التضحية سلوكاً فردياً واجتماعياً خيرياً يقوم به القادرون لمساعدة الفقراء والمحتاجين. ولكنها في جوهرها رسالة إلهية أسمى من مجرد المساعدة. انها تتعلق بموقع الانسان عند الله. وهو موقع مميز جداً. ولعل من أبرز مميزات هذا الموقع ان الله سبحانه وتعالى أمر ملائكته الذين لا عمل لهم سوى عبادته، أن يسجدوا لآدم، أي للانسان، الذي خلقه الله من تراب، وخلقهم من نار ونور. ومن هنا نفهم لماذا وصف الله سبحانه وتعالى فداء اسماعيل عليه السلام بذبح «عظيم». فالتعظيم هنا هو تأكيد على تعظيم الله للروح الانسانية ولحياة الانسان.

تعلمنا مناسك الحج، على خطى ابراهيم عليه السلام، ان الاعتداء على حياة الانسان أو انتهاك كرامته، هو اعتداء وانتهاك لهذه الارادة الإلهية الأسمى التي بدأت مع بدء الخليقة.. والتي تستمر حتى نهاية الزمن.

ان تقديم التضحية رمز. اما الجوهر فهو حياة الانسان والمحافظة عليها. فما بال أولئك الذين جعلوا من الانسان نفسه كبش فداء؟!