ليس هناك من هم أكثر “شطارة” من اللبنانيين في إبتداع الصيغ اللفظيّة والكلاميّة للخروج من المآزق السياسيّة بصورة موَقتة وبشكل “ترقيعي”، يؤدّي عمليّاً إلى تأجيل متتال للمشاكل المتراكمة دون إيجاد الحلول الجذريّة والناجعة. ولقد تحوّل هذا النهج من ممر موَقت يتم عبوره في لحظات الإحتدام السياسي إلى مسار شبه ثابت، يُكرّس نفسه في الحياة الوطنيّة ويجعل مجرّد الأمل بإيجاد حلول للمشاكل بمثابة أحلام بعيدة المنال.
من أبرز الأمثلة على هذه المعضلة المترامية الأطراف هو تلك الصيغة الهجينة التي إبتُدعت منذ سنواتٍ طويلة وترجمت نفسها في معادلةٍ وصفها الرئيس ميشال سليمان في آخر عهده بأنها “خشبيّة”، وهي تتمحور حول ثلاثيّة الشعب والجيش والمقاومة. وأعادت هذه الصيغة إنتاج نفسها في البيانات الوزاريّة المتكررة بشكل ببغائي، إذا جاز التعبير، خصوصاً أن معظم القوى السياسيّة المحليّة كانت تتلافى الإحتكاك مع محور المماحكة (المسمّى فخراً بالنسبة للبعض محور الممانعة).
إذا كان من حاجة جديّة للاستفادة من القدرات الدفاعيّة للمقاومة في إطار أي مواجهة مستقبليّة محتملة مع الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن ذلك لا يعني القبول ببقاء الوضع الراهن على حاله إلى الأبد. إن “تأبيد” المعادلة الخشبيّة يعني في مكان التفريغ المنهجي والمنظم لفكرة الدولة في لبنان ولمشروعها غير المكتمل، وأحد أبرز أسباب عدم إكتماله يرتبط بإستدامة هذه الصيغة إلى ما لا نهاية.
هل يمكن التفكير مثلاً بوجود مقاومة تايوانيّة ضد الصين، أو مقاومة كوريّة جنوبيّة ضد جنون الزعيم الكوري الشمالي؟ ماذا عن الهند وباكستان؟ وماذا عن كل الدول التي تعاني من “جيران” يملكون فائضاً من القوّة العسكريّة وجرعات زائدة من الحقد والجنون؟ أيواجهون تلك المخاطر من خلال فصائل مسلحة خارجة عن الدولة وأطرها الرسميّة والعسكريّة ولها علاقاتها الوثيقة إلى ما هو أبعد من حدود الدولة، لا بل هم عمليّاً يعتبرون من الأذرع التنفيذيّة لمشاريع إقليميّة لا علاقة للدولة فيها؟
هذا هو الواقع اللبناني. لا أحد ينكر عدوانيّة إسرائيل وحقدها التاريخي على لبنان وجنونها الموسمي تجاهه. ولا أحد يرغب فعلاً بأن يراها تنتهك السيادة اللبنانيّة مجدداً وتجتاح أراضيه دون حسيب أو رقيب. ولبنان يفاخر بأنه حرّر أرضه دون توقيع إتفاقيّة سلام أو إستسلام. وإستطراداً، ليس مطلوباً- بطبيعة الحال- العودة إلى ذاك العنوان التعيس الذي إرتكز على فكرة “قوّة لبنان في ضعفه”!
ثمّة مساحة وسطيّة بين خيارات الإنهزام أمام إسرائيل ولذلك أثمانه السياسيّة وغير السياسيّة الكبيرة وبين خيارات الإستفزاز غير المجدي لها الذي ينطوي على أثمان باهظة أيضاً. تتسع تلك المساحة تدريجيّاً بقدر ما يتسّع دور الدولة المركزي في القيام بواجبها بحفظ السيادة الوطنيّة، وتضيق تلك المساحة عندما تتنطح قوى أخرى لمصادرة هذا الدور وإحتكاره و”منع” الدولة من القيام به.
لا يمكن للبنان البقاء إلى ما لا نهاية في تلك المساحة الرماديّة التي تنتزع فيها الدويلة دور الدولة. لقد نمت الدويلة على أطراف الدولة وهمّشت دورها وعملها وأنشطتها إلا في المجالات التي لا تريد الدويلة أن تغمّس “أيديها” فيها نظراً لقذارتها، فتقوم عندئذٍ بـ”إستدعاء” الدولة للقيام بـ”مهامها”. بمعنى آخر: “دولة غب الطلب”!
أي مستقبل للأجيال الطالعة إذا كانت الدولة المرتجاة هي مشروع مؤجل منذ عقود؟ وأي مستقبل لتلك الأجيال إذا كانت إدارة بلادهم مرهونة ومحتجزة بين مشروع إقليمي يبدأ في طهران ولا ينتهي في حارة حريك، وبين مشروع عبثي دمر البلاد في سبيل الرئاسة والمناصب والمكاسب والحصص والشعارات الفارغة؟
يا لها من “دولة غب الطلب”!