Site icon IMLebanon

الثوار الحقيقيون والـثورة المجازية

إني متفائلٌ بالمتظاهرين اللبنانيين لكني متشائمٌ”بالثورة اللبنانية”. أملُ المتظاهرين ســـيَــخيب من الثورة كما خاب أملُـــهم من الدولة. غالبيةُ المتظاهرين أناسٌ طـــيّــبون، أصحابُ شكوى، لكن ولاءاتِ محرّكي التظاهرات هي نفسُـها ولاءاتُ الطبقةِ السياسية. الدول نفسُها والسفارات نفسُها والوصولية نفسها. إنّ القوى الخارجية التي راهنت على زعماء الطوائف تارةً وعلى قادة الجيش تارة أخرى تَـــلعب اليوم ورقةَ ما يُسمّى المجتمع المدني ضد الطبقة الحاكمة أكانت سياسية أم عسكرية.

من موقعي في وزارة العمل لاحظت برَيْـــــبَـــــــةٍ تدفّقَ “الخبراء” الأجانب إلى لبنان من خلال بعض الجمعيات غير الحكومية ONG. وحين كنت أحجِم عن منحِ بعضِهم إجازات عملٍ حِرصاً على اليد العاملة اللبنانية ولغموض مهماتهم، كان سفراء عرب وأجانب يغضبون ويَــشْـــكون عِنادي لدى رئيس الحكومة وغيره. اليوم تأكدت شكوكي وأدركت “بالوجه الشرعي” لماذا كان يلحّ هؤلاء الديبلوماسيون عليَّ لمنح “الخبراء” إجازات عملٍ، وهي عملياً إجازاتُ تحضيرِ انتفاضات. ورافق وصولَ “الخبراء” وأعقبه مجيءُ أعدادِ مرتفعة من الصحافيين الأجانب ينتمون إلى دول هؤلاء الخبراء من دون وجود أحداث في لبنان تستحق تغطية الاعلام الدولي. والبارز أيضاً قيامُ ناشطين، هم الآن في التظاهرات أو في كواليسها، بالتوسط لدي لتسريع معاملات هؤلاء الصحافيين والخبراء “حِرصاً على صورةِ لبنان وحفاظاً على المساعدات الدولية للبنان”.

لا يجوز أن يُـــوقِفَ التدخّــلُ الأجنبي والتسلل اليساري الحَراكَ الشعبيَّ الحقيقي الذي هو حاجة ملحّـــة لتغيير السلوك الأخلاقي والوطني في لبنان. لكن إذا سيطر “الطارئون” عليه، فأقصى ما يمكن أن يؤدي إليه الحراك، الخارج من أحشاء المعاناة والقهر والقلق، هو فوضى جديدة عوض نظام جديد. انتبهوا، فقبضةُ الطارئين أقوى من عزمِ الثائرين.

المشكلة في لبنان هي صعوبةُ تغييرِ النظام وتَـــعذّرُ تبديلِ الطبقة السياسية. تغييرُ النظام مرتبط بمصير الكيان نظراً لـــتَرنُّح كلِّ كيانات الشرق الأوسط. وتغييرُ الطبقة السياسية متعلقٌ بإسقاط الطائفية، وهي علةُ نشوء دولة لبنان الكبير. ليس لبنانُ مجموعةَ مواطنين بل تجمّـــعُ طوائف. نحن أمام معضلة تاريخية ووجودية تشكل قـــوّتنا وضعفَــنا في آن معاً. الطائفيةُ بَـــنَــت الدولة اللبنانية وتُـــعطِّـــلها، والطائفيةُ تُـــفجّر الثورةَ وتُــجهِضُـــها.

الانتقالُ إلى الدولة المدنية يَستلزم مجتمعاً علمانياً، وهو تحوّلّ متعذِّر بسبب البنية اللبنانية التحتية التي أسقطت كلَّ العقائد العلمانية النهضويةِ التي نشأت في القرن الماضي. لم يكن لبنان دولةً علمانيةً وجعلناها طائفية، بل كان دائماً ملاذَ الطوائف والمذاهب المسيحية والإسلامية. كان لبنانُ مذهبياً وجعلناه طوائفياً، وهي كانت خطوةً متقدمة في واقع الشرق آنذاك. وفيما نحن نقاوم اليومَ للانتقال من الطائفيةِ إلى المجتمع المدني، أعادنا الصراعُ السني الشيعي إلى نقطة الصفر، إلى المذهبية.

منذ ألف ومائتين واثنين وخمسين سنة، أي منذ نشوء أول إمارة في جبل لبنان، إمارة التنوخيين سنة 763، ولبنان تحكمه نفسُ الطبقة السياسية. تتغير الأسماء وتبقى القبائل والعشائر والعائلات نفسها. تتغير المســمِّــــيات (أحزاب، تيارات، حركات، منظمات) وتبقى الذهنية هي نفسها. أهذا قدرُ لبنان أم هذا هو لبنان، بل هذا هو الانسان؟

عملياً، حين نطالب جغرافياً بتغيير النظام اللبناني بوجهه الفاسد، نكون نطالب تاريخياً بتغيير الطبيعة البشرية التي يشكل الفساد أحدَ مكوناتها الاجتماعية في كل زمان ومكان وفي ظل أي نظام ديكتاتوري أو ديموقراطي وفي أي دولة متقدمة أو نامية. إن حركات الاصلاح الاجتماعي والأخلاقي في العالم اصطدمت بالطبيعة البشرية وليس بنوعية النظام السياسي أو الدستوري فقط.

لقد تعاطف اللبنانيون مع كل مشروعٍ إصلاحي، فأيدوا كل رئيس جمهورية إصلاحي توسموا فيه القدرة على تنحية الطبقة السياسية. من فؤاد شهاب، إلى الياس سركيس، إلى بشير الجميّل. لكن البيئة الحاضنة آنذاك أحبطت مشروع شهاب، والفلسطينيين والسوريين وقوى الأمر الواقع التفوا على إرادة سركيس، والسوريين اغتالوا بشير زعيماً وحلماً ومشروعاً.

حين يُخفِق الاصلاحُ تُـــطِل الثورة. وحين تُـــطِل الثورةُ يَـــكــثُر العـــرّابون. وحين يكـــثُر العـــرّابون يَـنقسِم الثوار. وحين ينقسم الثوار تسقط الثورة. وحين تسقط الثورةُ تَـــعُم الفوضى كنظام واقعي بأشكال شتى. فعدا ضحايا “الربيع الأميركي” المتــنقِّـــل، إن ضحايا حروب أنظمة الثورة الفرنسية فاقت ضحايا حروب الملكية الفرنسية. مئة وعشرون سنة استغرق استقرارُ الجمهورية الفرنسية بعد ثورة 1789. وثلاثية “حرية، أخوة ومساواة” ما كانت تحتاج كل هذه التضحيات، فهذه المفاهيم الثلاثة موجودة في كل كتب الدين والفلسفة.

لم يَحصل أن ثارَ اللبنانيون. انتفَضوا، عَصَوا، تَمرّدوا، قاوموا، تقاتلوا، قاتلوا، لكنهم لم يثوروا. ظلت الثورةُ سياحةً سياسيةً،مشروعاً غنائياً وديوانَ شِعر. عشِقنا الثورة من دون أن نتزوَّجها. اقتربنا منها من دون أن نَــلِجها ونُطلِــقَــــها. الثورة الشاملةُ بمفهومها العالمي ليست جزءاً من الشخصية اللبنانية لأسباب عدة أبرزها: هشاشةُ الوِحدة اللبنانية، الاختلافُ على مشروعِ الوطن والدولة، تعدديةُ الولاء للمحيط، عدمُ تعرّض لبنان لحكم وطني طاغٍ كالإمبراطورية والملكية والأنظمة الفاشية والشيوعية، كونُ أوضاع لبنان السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحضارية، رغم ثغراتها، أفضل من أوضاع محيطه العربي. قدرةُ اللبنانيين على حل مشاكلهم عبر التضامن العائلي والهجرات المتتالية كونُ الطائفية والمذهبية والعائلية مكوِّن أساسي للحالة اللبنانية.

اليسار ليس جُزءاً من مكــــوِّناتنا التاريخية، بل من رفاهـــيِّـــتنا الفكرية. نمطُ حياة اللبنانيين عموماً يساريٌّ بيومياته، لكن اليساريةَ ليست عقيدةَ اللبنانيين. فاليسارُ بنظر اللبنانيين ليس ضدَّ اليمين بل ضدّ الدين. والدين، بمفهوم الحرية، هو أساسُ نشوءِ الدولة اللبنانية.

لذلك، يَجدر بالناس الذين ينزلون إلى الشارع أن يكونوا قوةَ ضغطٍ وتغيير لينجحوا، فينتصر الشعب، لا ثورةً وفوضى فيفشلوا، ويُربِّــحوا أخصامهم. الشعبُ يراهن على شجاعتهم والطبقةُ السياسية تراهن على تهوّرهم. شأن هذه التظاهرات أنها تستعيد النبض اللبناني وتطلق منهجيةً أخلاقية للتعاطي في الشأن العام مختلفة عن الماضي. هذه تظاهرة المجهولين من أجل قضايا شفافة. مجهوليةُ هذه الظاهرة الشعبية هي قوتها إذ تعطّل استغلالها. واللحظة التي تُجــــيّر التظاهرةُ زخمَها وقضيتها لشخص أو أشخاص مشبوهين أو فاشلين أو حاقدين، أو مغرورين، أو عقائديين، أو منتحلي صفة ودور، تنتهي الانتفاضة، ونخسر جميعاً فرصة التغيير. أبعدوا المعلومين لتبقوا شــــفّــــافين.