لا يمكن لروسيا ولا لغير روسيا إبقاء بشّار الأسد في السلطة. الموضوع في غاية البساطة. هناك شعب سوري يرفض النظام القائم ولا يمكن أن يقبل به بغض النظر عن القوى الدولية التي تحاول تغيير مجرى التاريخ والتحكّم به وفق تمنياتها ورغباتها. لو كان ذلك ممكناً، لكان الاتحاد السوفياتي ما زال حيّاً يُرزق ولكانت أحزاب شيوعية مجوّفة، ما زالت تحكم دولاً مثل بولندا والمجر وبلغاريا ورومانيا وتشيكوسلوفاكا (صارت دولتين) وألمانيا الشرقية التي عادت جزءاً من ألمانيا. لو كان الاتحاد السوفياتي ما زال حيّاً، لكانت «جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية» في جنوب البلاد ما زالت قائمة.
استقبل الرئيس فلاديمير بوتين رئيس النظام السوري في سوتشي أم لم يستقبله. لن يتغيّر الكثير، حتّى لو سلمت الإدارة الأميركية كلّ أوراقها لموسكو. وهذا ما لم يحصل على الرغم من نتيجة معركة البوكمال الأخيرة. في تلك المعركة، استطاعت قوات
«التحالف الدولي»، على رأسها سلاح الجوّ الأميركي، إلحاق الهزيمة بـ«داعش». تقدمت قوات تابعة للنظام السوري مدعومة من «الحرس الثوري» الإيراني وميليشيات مذهبية متنوّعة من بينها «حزب الله» وسيطرت على البوكمال. انضمت إلى هذه القوات وحدات من «الحشد الشعبي» متمركزة في الجانب العراقي من الحدود. بقدرة قادر استعاد «داعش» البوكمال ليخليها مجدداً ولتعلن إيران مباشرة وعبر أدواتها أنها ربطت طهران ببيروت.
ثمّة من يقول إنّه جرت اتصالات أميركية – روسية تشير إلى وجود تفاهمات معيّنة بين الجانبين في شأن توفير ضمانات روسية معيّنة في ما يتعلّق بوضع نقطة استراتيجية مهمّة مثل البوكمال. لكنّ هناك من يعتقد أن الأميركيين يعتبرون ان الروس أخلّوا بوعود محدّدة كانوا قطعوها لهم. هذه الوعود مرتبطة بعدم تمكين إيران وأدواتها من السيطرة على البوكمال.
بعد اللقاء بين بوتين والأسد الابن في سوتشي وبعد معركة البوكمال والظروف التي أحاطت بها، يصحّ التساؤل: هل استسلمت إدارة دونالد ترامب لروسيا نهائياً وباتت تكتفي بوجود عسكري في إحدى ضفّتي الفرات، أم تحضر لمعركة مقبلة، خصوصاً أن لدى الأميركيين أربع عشرة قاعدة على الضفة الشرقية للفرات، فضلاً عن قواعد أخرى في أنحاء مختلفة من الشمال السوري؟.
قبل سنتين، زار بشّار الأسد موسكو بعد استدعائه إليها من أجل إفهامه ما يستطيع عمله وما لا يستطيع عمله. افهمه بوتين بلغة الأمر أنّه بات هناك وصيّ عليه. كان ذلك في العشرين من تشرين الأوّل 2015. ما الذي تغيّر منذ ذلك التاريخ؟
ما تغيّر أن التدخل العسكري الروسي، الذي بدأ قبل شهر من مجيء رئيس النظام السوري إلى موسكو، مكن بشّار من البقاء في دمشق وحمى الساحل السوري وقرى العلويين. بكلام أوضح، أن النظام يدين ببقائه لروسيا وليس لأحد آخر غيرها. ليس سرّاً أن إيران نفسها اعترفت بأن لا بدّ من الاستعانة بروسيا في حال كان مطلوباً عدم سقوط دمشق، أي تحريرها من بقايا النظام السوري والمحيطين به.
ما الثمن الذي ستطلبه روسيا في سوريا التي بات بوتين يعتبر نفسه ملكها؟ الأهمّ من ذلك، هل في استطاعتها أن تطلب ثمناً قد لا تكون إدارة ترامب مستعدة لتوفيره لها؟
واضح أن القيصر الروسي اعتمد خيار المحافظة على ورقة بشّار الأسد في الوقت الراهن، علماً أنّ ثمة خياراً آخر تفضله إيران يتمثّل في ادخال إصلاحات شكلية على النظام السوري وإبقاء السلطة في يد الأسد الابن، أي في العائلة والدائرين في فلكها الذين يدينون بالولاء الكامل لطهران.
أيّاً يكن الخيار الروسي، وأيّاً تكن درجة الاستسلام الأميركية لفلاديمير بوتين، هذا في حال صحّ أن هناك استسلاماً، يظل أن ليس في الإمكان تجاهل أنّ ليس في استطاعة أيّ قوّة على الأرض المحافظة على نظام أقلّوي لم يمتلك أيّ شرعية من أيّ نوع في أيّ يوم من الأيّام.
لو كان ذلك ممكنا، لما كانت الثورة السورية مستمرّة منذ آذار 2011. هذه الثورة التي عمل النظام، ومعه روسيا وإيران، على شيطنتها، مستمرّة وإن بأشكال مختلفة على الرغم من كلّ الدمار الذي لحق بالمدن والقرى والبلدات والبنى التحتية.
سيكون أمام روسيا نوع جديد من التحدّيات في المرحلة الانتقالية التي تظنّ أنها ستشرف عليها، بموافقة أميركية وأوروبية وحتّى عربية. من بين هذه التحديات الطموحات الإيرانية التي لا حدود لها، وهي قائمة على فكرة ربط أراضٍ سورية بأراض لبنانية معيّنة تقع تحت السلطة المباشرة لـ«حزب الله» الذي يُعتبر بقاؤه مسألة حياة او موت بالنسبة إلى إيران.
هناك تحدٍّ آخر يتمثل في أنّ الولايات المتحدة لم تقل، في رأي كثيرين، كلمتها الأخيرة بعد وهي في انتظار الوقت المناسب لتؤكد للروسي أن ليس في استطاعته إعلان نفسه ملك سوريا، في ظلّ تمدّد إيراني لا يرضي بالأكيد إسرائيل التي لديها هواجسها الأمنية.
أثبت بوتين من دون شكّ أنّه قادر على تغيير المعادلات في سوريا. الدليل على ذلك أن الأسد الابن ما زال في دمشق. الى أي حدّ سيذهب في لعبته، خصوصاً إذا تبيّن أن الأميركيين غير راضين عنها وهم ينظرون بريبة إلى الحلف الروسي – الايراني – التركي؟
سيتوقّف الكثير على ما إذا كان في الإمكان الحديث عن استسلام أميركي أمام روسيا أم لا.
يبدو أنّ الحرب في سوريا ما زالت في بدايتها، على الرغم من أن سيطرة ايران على البوكمال تطور في غاية الأهمّية. الأمر الوحيد الثابت أن من الباكر الحديث عن إعداد روسي لمرحلة انتقالية يُبحث فيها جدّياً في حلول سياسية. لن يكون هناك انتقال فعلي إلى الجدّية، إلّا في اليوم الذي يصبح فيه الكلام واضحاً عن أنّ الأسد الابن ونظامه لا يصلحان سوى لتمرير مرحلة يتركز البحث فيها على إعادة تشكيل بلد كان اسمه «الجمهورية العربية السورية». مَن المجنون في هذا العالم الذي يتصوّر أن بشّار الأسد يمكن أن يحكم سوريا يوماً في مرحلة عودة السلام إليها… هذا إذا عاد السلام؟