IMLebanon

الخامس والعشرون من أيار: في البدء كانت فلسطين

إنه الخامس والعشرون من أيار، للمرة الخامسة عشرة… من أين حضر هذا التاريخ، وما أصل الحكاية؟

في البدء كانت فلسطين، أرض تتصل بالسماء وضاربة الجذور بالتاريخ. كانت فلسطين شعباً على مرّ أجيال، بنى مدناً وأقام هياكل وزرع سهولاً وحرس زيتوناً وانتمى إلى البرتقال. كانت وطن عبادات وصلوات عتيقة وإيمانات متراحمة. أهلها ينجبون الأولاد ويحصدون الزرع ويعتّقون الزيتون والخمر، ويقدسون الشعر والغناء وتراتيل الكنائس وتجويد الآيات… في البدء كانت فلسطين، وتقريباً، كان كل شيء طبيعياً، برغم قسوة العثمانيين، ومخاوف الحروب، إلى أن…

في البدء كانت فلسطين، ومن بعيد جداً، تطلّع إليها قوم تضطهده الأمكنة وتتهمه بالجريمة وتسلّط عليه اللعنة. حمّلوه صلب المسيح ورموه بإثم عبادة المال وقيّدوه في سجل النجاسة ونعتوه بمهارة المؤامرة و… صناعة «بروتوكولات صهيون». من بعيد جداً، استعاد هؤلاء أسطورة «أرض الميعاد». تلك هي فلسطين، قالوا: فلتكن أرض إسرائيل. أنشأوا حركة لاحتلال فلسطين، لتحريرها من الأغيار وإقامة وطن يهودي. ثم افتروا عندما ادعوا أنها «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض».

في البدء كانت فلسطين، ثم كانت الصهيونية، ثم كانت موجات الهجرة والاحتلال. لم تكن فلسطين مذنبة بحق أحد، وبالتأكيد، لا ثأر لها على اليهود. كانت ضحية من دون خطيئة. حدث كل ذلك على مدى عقود، إلى أن قيل: «أنت فلسطيني، إذاً أنت لست موجوداً».

لم يكن الاحتلال عابراً. كان مختلفاً. «شعب» دخيل، يحل مكان شعب أصيل. وسمِّي الاحتلال استيطاناً ودُعيت الجريمة حضارة.

في البدء كانت فلسطين، ثم كان الاحتلال، ثم كانت المقاومة. هذا هو أصل الحكاية.

حكم على شعب فلسطين أن يقلّد الموت. عاش، أو شبِّه لنا كذلك، على حافة القتل. إن نجا، طاله التهجير. إن حالفه الحظ، وجد بلاداً تؤويه الخيام. إن رحمه العالم، «اعتنى» به لاجئاً في مخيمات العار. إن قاوم، حُكِم بالإعدام، من عدوّه وصديق عدوّه وعدوّ عدوّه المزعوم. إن امتشق السلاح، طعنوه به، وشوّهوا فوهته: سمّوه إرهاباً على مدى قرن، وبلا هوادة. والاحتلال الإسرائيلي، مدعوم دولياً، مغطى رسمياً، منسيّ عربياً، مهمَل إنسانياً. عاش الفلسطيني موته، لتحيا قضيته. وكان يتنقل من «وعد» إلى «نكبة»، إلى «نكسة» إلى «كامب ديفيد» إلى «أوسلو» إلى عتبات مجلس الأمن… مرّت حروب، أولى وثانية عالمياً، كانت حصــته منها إقامة دولة الاغتصاب. ولدت عقائد وارتفعت شعارات، واجترحت انقلابات، وتألّفت حــــكومات، وعقدت قــــمم، وحازت فلسطين دائماً على لغة وإنشاد وخطاب، وما حظيت بتحرير. النفاق الدولي يتفوّق عليه النفاق العربي.

في البدء كانت فلسطين. في ما بعد، كان الاحتلال. وكانت المقاومة، ولم يكن لبنان محايداً أو مهاجراً من مكانه. احتضنت قوى حزبية وشعبية هذه المقاومة، وساهمت فيها، دعماً وسلاحاً واستشهاداً.

لبنان الرسمي، ساد في موكب النظام العربي المتهالك، الساعي إلى ترميم بقائه، بفئات الكلام وبيانات «السلام العادل والشامل»، وإلا…

ولأن اللبنانيين تشد بعضهم إلى فلسطين عواطف ومواقف، أملتها عقائد قومية ويسارية وإنسانية، فقد انخرطوا في النضال، ومنحوا الفلسطيني اللاجئ منصة منيعة لمقاومة، وعدت بأن البندقية طريق لتحرير فلسطين.

لبنان وفلسطين توأمان. «الأشقاء» العرب، تعاملوا مع الفلسطيني كواحد من الأشقياء. الأنظمة العربية قبضت على فلسطين وسجنتها في بياناتها وإخباراتها، وفرضت على الفلسطيني الإقامة في السجن العربي، إلى جانب أقرانه من بؤساء المواطنين العرب.

في لبنان، فسحة حرية. الحرية الخاصة به طائفياً، هي أساس وجوده. من هذه القسمة دخلت فلسطين القضية إليه، وأقامت فيه ردحاً من الزمن. استقبلت فلسطين من قبل مَن انتمى إليها قومياً ويسارياً وإنسانياً. لم تكن الطوائف آنذاك منيعة. كانت المغانم قد فتتتها وأوهنتها.

أخطاء كثيرة ارتكبت آنذاك. تقديرات واهمة سقطت. معارك جانبية أكلت من الصحن الفلسطيني وعاثت فيه منافع ومغانم. غير أن الخطيئة الكبرى كانت في استدعاء إسرائيل ومواكبتها والانتظام في معاركها، لاقتلاع المقاومة الفلسطينية في لبنان، ومنع أي مقاومة تنطلق منه، وإقامة سلطة تنتظم في قطار «كامب ديفيد»، لإقامة سلام مع إسرائيل، ولتمويل لبنان منصة للتصويب على كل ممانع أو ممتنع ولا يسير في الركب الزاحف إلى التسوية… على حساب كامل فلسطين.

في البدء الثاني، كان اجتياح إسرائيل للبنان. جثا لبنان على ركبتيه رسمياً. المقاومة الفلسطينية أُخرجت إلى البحر، والمقاومة اللبنانية شُرّدت في الأماكن البعيدة. بيروت تحت الحصار. بعبدا يحرسها جنود إسرائيليون. انتخابات رئاسية بقوة الحراب الصهيونية. خذلان تام، انهيارات سريعة، إلى أن خرج من هذا الخراب الكبير، مَن شهر بندقيته وقال: لا. في تلك اللحظة القاسية خرج العصيان على الملأ. عمليات في بيروت. عمليات في الجبل. تحطيم سلطة إسرائيل في لبنان. سقوط المشروع القواتي ـ الكتائبي ـ الإسرائيلي، وبدء العمل على انسحابات لإسرائيل من أماكن المواجهة.

في تلك اللحظة كذلك، ولدت المقاومة الإسلامية، مدعومة من إيران الفلسطينية جداً، ومن الحاجة إلى دحر الاحتلال. ولقد دُحِر بعد دحر المقاومة والعذابات والدموع والانتقامات. وكتب التاريخ، أنه، للمرة الأولى، انسحبت إسرائيل من أرض احتلتها بلا قيد أو شرط.

الخامس والعشرون من أيار للمرة الخامسة عشرة، لم يكن النهاية. في البدء كانت فلسطين، وفي الأصل كان الاحتلال، والمقاومة كذلك… على أن المقاومة الإسلامية التي خرجت من تحت الركام ودعوات الاستسلام وبطاقات الإغراء وفتاوي التعقل ورغبات «الأشقاء» العرب، استطاعت أن تعيد إلى الوعي العربي الشعبي، أن المقاومة، لا المسالمة، هي الطريق إلى التحرير.

تختلف هذه المقاومة عن سواها، أنها لم تكن فرعاً لأصل، بل كانت أصلاً لفروع. دارت على محورها الطبيعي. التحرير أولاً، وكل ما عدا ذلك تالياً. لم تكن حزباً لتغيير السلطة أو لاعتلائها. كانت مقاومة لفك أسر الأرض والشعب والوطن، وإعادته إلى سوية الحياة الطبيعية. ولأول مرة في تاريخ الأمة والمشرق، تنتزع المقاومة انتصاراً لقضية حقة، أساسها فلسطين وطريقها من لبنان. شكّل الانتصار طعنة في جسد النظام العربي الرسمي آنذاك. اكتسحت صورة المقاومة وصورة سيّدها العواصم والمدن والدساكر العربية، من المحيط إلى الخليج. أعادت المقاومة إلى الأمة الثقة بجدواها، وفضحت زيف «الحلول السلمية» والتبشير الببغائي بها والكذب المفضوح في شأنها. ثبت، بالفعل الإسرائيلي، وبالتراضي العربي والتراضي الدولي، أن لا حلّ سلمياً غير الحل الذي تتبنّاه إسرائيل وتكتبه من ألفه إلى يائه. ثبت أن لا حل سلمياً أبداً. إسرائيل تعرف المرمى: في هذه الأرض مكان الشعب واحد، هو الشعب الإسرائيلي. دبّروا للفلسطيني في غير هذا المكان، وطناً أو قبراً.

الديموقراطية لا تناسب الأنظمة العربية. التحرير يقضّ مضاجعها. فلسطين تسترجع انتفاضتها. بالزند والزناد، بالحجر والإيمان الملازم له. الممالك لا تناسبها الحرية وتخشى التحرير… فجأة، بدأت الفتنة الكلامية والاتهام بالتشييع، في عالم سنّي، يمكن إيقاظ مذهبيته على عزف «الفتنة الكبرى» وقميص عثمان المعاصر. يفترض في هذه المعركة أن تغيب فلسطين عن التداول، وتسلّم إلى تل أبيب وواشنطن فقط. حدث ذلك وسط مبايعة عربية لواشنطن وسد الطريق أمام «حماس»، عسكرياً وسياسياً.

المقاومة أصبحت خطراً على إسرائيل في فلسطين، وباتت خطراً على النظام الرسمي العربي من شعوب بلدانه وأنظمته. ما عادوا يريدون البتة فلسطين ولا يطيقون المقاومة. رأس فلسطين متروك لإسرائيل، فمن يقطع رأس المقاومة؟

الفتنة هي الحل. فلتذهب المقاومة إلى الدفاع عن نفسها في كل مكان، تُتّهم فيه بشيعيتها وبندقيتها المأجورة للنظام الفارسي. تعمّد الأشقياء العرب تعظيم «الخطر الإيراني» وإهمال الخطر الإسرائيلي. احتلت إيران في السياسات العربية، صاحبة القرار الذي تضخّه إقليمياً ودولياً، منظومة دول الخليج النفطية السنية، موقع الصدارة بين الأعداء. وطبيعي جداً، أن العداء لإيران ليس أصله نووياً، بل الأصل فيه، فلسطين. فدول الخليج ضد إيران الثورة منذ اندلاعها، وطوّبوا صدام حسين قائداً لحروبهم ضدها… هذا كان في البدء.

البدء الثالث إذاً، كانت إيران. فلتذهب فلسطين إلى النسيان ولتذهب المقاومة إلى بئس المصير، ولتذهب إيران إلى الفتنة.

هكذا اندلعت الفتنة بعدما كانت أشد فتكاً من القتل، بل كانت هي القتل بلا حدود، وخارج كل حدود، ومتخطية كل الحدود.

في الخامس والعشرين من أيار لهذا العام، تذكير بانتصار رائع، وسط خوف على كل شيء. هذه الحرب المعلنة في المشرق، لا تريد إسقاط المقاومة فحسب، تريد إسقاط كل شيء، وتدمير كل شيء، وإعدام كل شيء.

نجحت أنظمة الفتنة في مراقبة وحش والرهان عليه، ليُسقط المقاومة وإيران ومَن معها. وقد لا تنجح في رد هذا الوحش عنها.

يبدو أن أمام المقاومة الإسلامية في لبنان أن تخوض حرب وجود، لا حروب دفاع. ليست فلسطين وحدها في خطر. الأمة كلها. الدين كله. الشعب كله. القيم كلها. المقدّسات جميعها. الشعب كله.

لبنان ليس في وارد التوحّد لمواجهة الخطر المتوحش عليه. بيزنطي جداً هذا البلد. يناقش في جنس الملائكة، ورئاسة الجمهورية والتشريع الضروري وتعيين قادة الأجهزة الأمنية، ولا يدرك أن هولاكو على الأبواب، ويكاد لا يرى كيف تتساقط المدن العراقية والسورية وكيف تعيش اليمن، وكيف تتخرّب ليبيا، وكيف تصحو سيناء…

يبدو أن لبنان الذكي جداً، يمارس فصل الغباء المطلق. وما يزال ينطق كلاماً ينتمي إلى فصيلة الضفادع.

بعد كل هذا… «لا تبكوا ملكاً ستخسرونه». ولات ساعة مندمِ.