“تستغرق معرفة الصنعة وقتاً طويلاً، لكن الحياة قصيرة،
والأزمة متسارعة، والاختبار خطر، والعلاج غير أكيد”.
أبقراط “الأمثال الأولى“
الأسبوع الماضي عقدت لجنتان من هذا العالم اجتماعاً في وقت واحد: الأولى، لجنة المتابعة بين “حزب الله” و”المستقبل”. الثانية، بين كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية. سبق الاجتماع اللبناني أن كل فريق قال رأيه في الآخر وأورد اتهاماته، وأقلّها أن قراره في الخارج. الكوريون كالوا الشتائم بعضهم للبعض من مكبّرات الصوت، عبر الحدود. ثم تصافحوا. ثم افترقوا. إلى اللقاء المقبل.
بلد واحد، لغة واحدة، عالمان. لا مبالغة في التشبيه أو المقارنة. المسافة عبر الحدود، أو داخلها، لا حدود لها. ولا نهاية. فريق يعتبر أن لبنان لم يكن قبل المقاومة سوى بضع صفقات، وفريق يرى لبنان في العمران والمصارف. فريق يقدّم الولاء للوليّ الفقيه على كل شيء آخر، وفريق يُعلن “لبنان أولاً”. فريق يدعو إلى مؤتمر تأسيسي من أجل إعادة تشكيل النظام ورسم هوية البلد وتعديل جوهر هويته، وفريق يُصرّ على المناصفة، وهي صيغة صوَريّة متآكلة. فريق يدعو عملياً إلى حكم الحزب الواحد وثقافته وطريقته، وفريق لا ملجأ له ولبقائه، إلا بمجموعة أحزاب تشكّل هي الأكثرية، كما تشكّل مجموعة الأقليّات الأكثرية الحاكمة في الولايات المتحدة.
الفارق بين ثقافة الحزب الواحد والأحزاب المفتوحة، أن الأول لا يقبل النقاش ولا المشاركة، لأنهما يلغيان جوهر وجوده ويهددان قوته المغلقة. الثاني يحاول تجميع قوّته التمثيلية من خلال تعدّدية الأفكار تحت مظلّة واحدة وشعارات مفتوحة.
ما الفائدة، إذاً، من استمرار اللقاءات التي تتكرّر بعدها – أو خلالها – شتائم مكبّرات الصوت وغضَبات الصحف وصيْحات التلفزيون؟ لا فائدة. والقول إن اللقاء في حدّ ذاته إنجاز، هو مجرّد تعبير مستعار من حالات كثيرة سابقة، لا يلغي حقيقة كون الفريقين يسيران في اتجاهين متوازيين، أو متعاكسين. لا فارق.
لا يمكن أن تكون النهايات متلاقية إذا كانت المنطلقات متنافرة. وعندئذٍ، لا تعود اللغة الواحدة، أو الأرض الواحدة، ذات قيمة أو معنى. حدثت التجربة في أماكن كثيرة، لعل أهمها تجربة الألمانيتين: “العنصر الجرماني” ذو الجينات الواحدة و”الميزات” الآرية الواحدة، والتاريخ الواحد، ينشطر إلى دولة ماركسية تردِّد النشيد الأممي عابر الحدود جميعها، وإلى دولة رأسمالية تُعيد صناعات “كروب” وتُطلق “المارك” في منافسة مع أمجاد النقد. ظلّ الألمان الشرقيون يرفعون كل يوم صوت النضال الأممي وتعاليم فلاديمير إيليتش، بينما انصرف الغربيون إلى توسيع شرايين الحياة.
عندما يكون الخلاف إيديولوجياً لا ينتهي إلا بحسمه لمصلحة فريق دون آخر. خلافات لبنان أعمق مما تردّده الثرثرات السياسية التي تشبه كلام الشريط السريع في أفلام “والت ديزني”. وهي لا تشمل فقط التوترات السياسية اليومية وترداد التُّهم، بل تتعدّاها إلى أمرين مكشوفين ومُعلنين: النظرة إلى النظام، والنظرة إلى الوطن نفسه. الحكومة في هذه الحال، ليست سوى حلبة، تدور فيها الملاكمات داخل الحبال، أو المصارعات خارجها عند الضرورة. المتفرّجون يصفّقون.
أو، كما في مسرح، يتحوّلون عند الضرورة إلى ممثّلين. تُحوّل نشوة الغلَبة كل واحد منهم إلى بطل. ويُلهب التصفيق النفوس الحامية كما يُحرك النفوس البليدة. عندما يعودون إلى بيوتهم وإلى صوابهم، يكتشفون أن ثمة رابحاً واحداً في هذه اللعبة Winner Takes All وإلى ذوي النيات الحسنة الذين لا يكفّون عن السؤال: لمن تكتبون؟ نحن نكتب لكم.
الخيار الآخر سهل على كثيرين. تختار واحدة من الكوريّتين وتنضمّ إليها. وتصفّق للزعيم المبجّل كيم جونغ – أون. وتهتف للمبجّل والده، ولجدّه المبجّل الأكبر، وصاحب فكرة المبجّلين. أو تختار كوريا الجنوبية، كاسحة الصناعة العالمية. ومن السذاجة أن تبقى في الوسط. ولكن من الأهنأ بالاً وضميراً. غداً تقول لحفيدك عندما كانوا يحرقون قلب البلد، لم أكن أفكر إلاّ فيك. كنت أحلم لك ببلد لا تكون فيه غريباً فوق أرضك. ولكن ماذا نفعل؟ البقاء للأصفق.
كل فترة تُطالب مقاطعة كيبيك بالانفصال عن كندا. تريد أن تكون فرنسية وسط بحر من الأنغلوسكسون. جميع مداخيلها الكبرى من هذا البحر، وخصوصاً من نيويورك التي تضيء كهرباءها من مياه كيبيك. ومع ذلك تصرّ على العوْم وحيدة. وهكذا تتولى الدولة المركزية في أوتاوا إغراقها في المساعدات والعطايا. ومن هنا نشأ مثَل شعبي يقول “دولاب السيارة الصرّار يحظى بأكثرية الزيت”.
اللجاجة أو الصرَّ، وسيلة من الوسائل. وفي إمكانك أن تمضي العمر كله وأنت تطالب الآخرين بحقوقك ولن يفيك أحد. لكن المشكلة هي في الضرر الذي يلحق بالعموم. ففي “صريرها” خسرت كيبيك الكثير إلى أونتاريو حيث تقوم الحياة على ما هي اليوم، لا على ما كانت قبل ثلاثة قرون.
عدت إلى قبرص بعد غياب 24 عاماً الأسبوع الماضي مع عائلتي. سألت عند مدخل مطار لارنكا عن حمّال يساعدني على حقيبتي، فأجاب الموظف، بين التهذيب والتأنيب: “هذا البلد لم يعد فيه حمّالون”. كان عليّ أن أحزر. أوائل الثمانينات، كان يُكتب جدول الرحلات في المطار على لوح أسود. بالطبشور. والآن يبدو نسخة من المطار الرابع في هيثرو. والطريق إليه، المطار، أنظف وأنعم من أي طريق في أوروبا. وثمّة لافتة مُحزنة أمام أحد فنادق ليماسول، لا أدري سبب وضعها، كُتب فيها: “لبنان على 120 ميلاً من هنا”.
لا تصدّق. الفارق المدني والقانوني والاعتباري بين قبرص وهنا، هو ألف عام. هذا بلد ليس غارقاً في الزبالة وفي همّها. وهذا بلد لم يُزلغط لأنه أصبح لديه قانون سير “جديد” في العام 2015، وبلد جباله خضراء وبحره أزرق بلا تلوّث ولا غبار ولا مكبّات. وبلد فيه تنظيم مُدني وبلديات. وبشر وملايين السيّاح وألوف الاستثمارات، وفيه من ينام بلا عشاء.
بلد عادي وأناس عاديون. لا ادّعاءات ولا لجاجات. وعليه رئيس فاضل يمكن أن يكون شيوعياً من غير أن يتغيّر شيء في حياة البلد أو قوانينها. يعلّق صورة تروتسكي في منزله، أما في القصر، فيعلّق صورة مكاريوس وبنود الدستور. هل نُغبط قبرص؟ جداً. ولكن ماذا عن “سويسرا الشرق” و”باريس الشرق”؟ سلامتك.
في سويسرا الشرق الجديد يرفع “المجتمع المدني” لافتة مأخوذة من قاموس الذين يتظاهر ضدهم: “طلعت ريحتكم”! من كل الخيارات أمامه لم ينتقِ سوى هذه الفجاجة المتبدّلة التي كنا نعتقد أن السياسيين قد احتكروها في ما احتكروا من حقوق وتفوّق وعلوّ على البشر الذين أعطوا حقاً واحداً: التصفيق أو الهجرة.
تظاهر اللبنانيون والعراقيون في وقت واحد من أجل قضايا وجودية وضد الفساد السياسي الصدئ والأناني والفاسق. عادة ينزل العرب إلى الشارع من أجل “القضايا الكبرى” فقط. أما هذه المرة فتواضعوا يطلبون الماء والكهرباء والنظافة. وفي العراق بارَك رجل وقور وفاضل هو آية الله السيستاني، التظاهر ضد الفساد ونهب نحو تريليون دولار. فكِّر للحظة أن بلاد ما بين النهرين عطشى وبلا كهرباء. فكّر أن المطر يهطُل في لبنان أضعاف قبرص والناس غير قادرة على الاستحمام. فكّر أن اليمن تصرُف المياه على زراعة القات. فكّر في هذه الأمة التي أفاقت العام 2015 فوجدت نفسها تشتهي أن تكون شيئاً من جزيرة هزيلة المصادر والثروات تُدعى قبرص.
منذ أن أفقت على الدنيا وأنا أرى صوَر الشاحنات اللبنانية متوقفة على الحدود. وهذا الصباح أقرأ في “سايبروس ميل” أن الدولة ستمنح الأرض للزارعين في سبيل تصدير كميات كبرى من البطيخ إلى روسيا والصين! حيث تحضُر الدولة، يتحضّر الناس. حيث يسود القانون، تعمّ الطمأنينة. حيث تروّض الأنانيات، تزيد السعة ويتأدّب السياسيون وتكون بسيطة لغة الحياة وجميلة أشياء النهار.
رئيس بلدية ليماسول الذي عقَد زواج ابني، جاء بقميص متواضع قصير الكمّين. كان يشبه رجلاً من المقهى أو من الدكان أو من ساحة الضيعة. وكان ضاحكاً وبسيطاً ولم يكفّ عن التباسط معنا. ولا هو توقّف عن الترداد كم يحبّ لبنان، وكم يغبط القبارصة جارهم على جماله وفصوله وبريق التاريخ. وماذا بعد؟
لا شيء. لا شيء. نحن نملك بعلبك وصور وصيدا وجبيل ومدرسة الحقوق الرومانية في ساحة البرج، فأمرَت وزارة الثقافة بتعليب حجارتها. يضحكون في قبرص. يتنفّسون هواءً نقيّاً، وبحرهم أزرق مثل أعين أهل الشمال الأوروبي. ومخالفات السير عندهم صفر. وليسوا بحاجة إلى “قانون سير جديد” بعد أربعة آلاف عام على اختراع الأبجدية. كيف يقبل هذا الشعب على نفسه أنه في حاجة إلى “قانون سير”؟ كيف يقبل هذه اللغة وروائحها؟ كيف يقبل هذا التزلّم المرض عاماً بعد عام، وعقداً بعد عقد، وحرباً بعد حرب، وسرقة بعد نهب، وقمامة بعد زبالة؟ عش لبنان.