Site icon IMLebanon

العالم لا ينام: تصنيف جديد للحرب الأوكرانية

 

صنّفت الحركة الدولية التي تواكب الغزو الروسي لأوكرانيا ما يجري في شرق اوروبا، بأنّه اكبر من أزمة إقليمية وأصغر من حرب عالمية ثالثة. فقد أحيت العمليات العسكرية كثيراً من المخاوف من احتمال توسعها، لتشمل بقعاً أخرى في العالم. بعدما ألقت بتداعياتها على أكبر من مساحة المواجهة الحالية استناداً إلى التقارير الاستخبارية التي اختلفت في استشراف حجم الطحشة الروسية وشكلها. وعليه، ما هي الدلائل على هذا التصنيف؟

 

قبل أيام على الرابع والعشرين من شباط الماضي، تاريخ عبور أولى القوافل العسكرية الروسية للحدود بين البلدين في غزوها للأراضي الأوكرانية من جهة جزيرة القرم وجنوب شرق البلاد في اتجاه مقاطعتي دونيتسك ولوهانسك العاصيتين على السلطة المركزية في كييف، كانت كل التقارير الاستخبارية تتحدث عن عمل عسكري روسي من دون أفق واضح يجري الإعداد له. فالمناورات التي شهدتها المناطق المتاخمة للحدود الأوكرانية، أوحت بكثير مما يدبّر للجارة الكبرى التي انتفضت قبل سنوات قليلة وأشهرت عداءها لموسكو جراء مطالبتها بالانضمام الى الحلف الاطلسي، أسوة بجاراتها التي خرجت من عباءة الاتحاد السوفياتي السابق إلى رحاب الاتحاد الأوروبي والحلف معاً.

 

وقبل الدخول في تفاصيل التوقعات التي بُنيت عليها مجموعة من التقارير الاستخبارية، كشف خبراء عسكريون وديبلوماسيون، إن ما جرى كان متوقعاً في جانب منه، مع بعض المفاجآت التي لم تكن متوقعة. فهي تحدثت قبل ايام قليلة عن مجموعة من السيناريوهات التي تحاكي أشكالاً عدة من العمليات العسكرية، والتي تضاربت في جزء منها مع توقعات روسية، رجّحت بلغة الواثق من حجم القوة المستخدمة، بأنّ ما ستقوم به موسكو مجرّد «عملية خاصة» للإطاحة بالرئيس الأوكراني وتركيبته الحكومية والعسكرية، بالسرعة التي تستدعيها «عملية تأديبية»، لن تطول وستنتهي في وقت قياسي.

 

وفي الوقت الذي كشفت موسكو عن أهدافها بطريقة أوحت بإمكان القيام بعملية عسكرية تشبه التدخّل الروسي قبل فترة قصيرة في جورجيا، ضمنت بنتيجتها الحماية للنظام الموالي لها، كانت كل التقارير الغربية الأخرى تتحدث عن عملية معقّدة وصعبة، ولن تتمكن القيادة الروسية من حسمها بالسرعة المتوقعة، وصولاً الى الاعتقاد بأنّ موسكو جنت على نفسها بدخولها المستنقع الاوكراني. ومردّ ذلك، أنّها وقعت في الفخ المنصوب لها في اكثر من معبر إجباري للغزو، لا يمكن تجنّبها إن من جهة جزيرة القرم والمقاطعات الجنوبية والجنوبية الشرقية او لجهة الحدود المباشرة بين الدولتين والاراضي البيلاروسية من الجهتين الشرقية والشمالية ـ الشرقية.

 

وعليه، توقفت المراجع الديبلوماسية والاستخبارية أمام المعطيات التي كشف عنها «تقرير ميونيخ»، الذي يخالف التوقعات الروسية المتفائلة بعملية «موضعية وسريعة» تنهي النظام المعادي لها، كما بشرّت النخبة العسكرية الروسية. وقالت انّ هذا التقرير، الذي يُعدّ سنوياً للمؤتمر الدوري الذي نُشر قبل أيام على بدء الغزو، قد طُرح على المنتدين من أصحاب الاختصاص على مدى يومين في قاعات المؤتمر الذي عُقد بين 18 و20 شباط الماضي، أشار صراحة الى انّه لم تتوافر أي وسيلة ديبلوماسية او عسكرية لثني الرئيس الروسي عن العملية التي يخطّط لها، بطريقة نعت كل الجهود التي بُذلت لتوفير إراقة الدماء على الأراضي الأوكرانية، مع الإشارة بوضوح الى التداعيات المحتملة لأي عملية عسكرية من النوع التقليدي، إن لجأت موسكو الى ترسانة اسلحتها التدميرية البالستية البعيدة المدى، او تلك المباشرة التي يمكن ان تقوم بها أسلحة الجو والبر التي شاركت في المناورات التي سبقتها.

 

واللافت انّ «تقرير ميونيخ»، تحدث بدقة متناهية عن المعابر البرية التي ستستخدمها القوافل العسكرية الروسية في غزوها من أي جهة أتت، وفق ثلاثة سيناريوهات تحاكي الحدود المشتركة لأوكرانيا لجهة جزيرة القرم او الأراضي الروسية كما البيلاروسية، من دون إغفال استخدام القيادة الروسية أسلحتها الصاروخية وسلاح جو من مختلف القواعد البرية والبحرية، خصوصاً تلك المنتشرة في بحري آزوف والأسود، والتي ستتركّز عملياتها في الأيام الاولى للاجتياح على تدمير القواعد العسكرية والمطارات الاوكرانية المنتشرة في جنوب البلاد وشرقها في المرحلة الاولى، قبل الوصول الى مرحلة الحرب الشاملة على الاراضي الاوكرانية.

 

وعند هذه المعطيات التي كانت متوافرة قبل بدء الغزو، توقفت المراجع الديبلوماسية والاستخبارية أمام تقديرها لساعة الذروة في العمليات العسكرية وما يمكن ان تحقّقه العملية الروسية. ولذلك، فقد توصلت الى قراءة موضوعية اشارت بوضوح الى أنّ ما أرادت موسكو تحقيقه في الأيام الأولى للضربة العسكرية لم يتحقق بنسبة كبيرة، بدليل تراجع القيادة الروسية عن شروطها الاولى التي قالت بتنحّي الرئيس الأوكراني وإعلان الاستسلام، مع الاستعداد للتجاوب مع القيادة العسكرية الاوكرانية إن خرجت عن إرادة الرئيس، وهو ما لم تنجح في تحقيقه على الرغم من العروض المغرية التي تلقّاها قادة الجيش الكبار.

 

وفي انتظار ما ستحمله الأيام المقبلة من تطورات، فقد بات واضحاً انّ الدعم الذي لقيه الجيش الأوكراني غيّر من مجرى العمليات العسكرية، وهو ما كشف عنه ديبلوماسيون اوروبيون في بيروت، جالوا على القيادات اللبنانية ووزارة الخارجية لتوضيح الموقف. فهم عبّروا بكثير من الوضوح عن المخاوف التي تعتري اكثر من دولة جارة لاوكرانيا، باحتمال ان تكون الهدف المقبل بعد سقوطها. ولذلك لفتوا إلى حجم المساعدات العسكرية النوعية والمتطورة التي قدّمتها للجيش الأوكراني، في موازاة الدعم الديبلوماسي وما قادت إليه العقوبات الهائلة التي فُرضت على روسيا، وخصوصاً المالية منها والتجارية والاقتصادية، التي شملت كيانات ومؤسسات وشخصيات من النخبة المالية القريبة من الرئيس فلاديمير بوتين، من أجل لجم طموحاتها في المنطقة وإنهاء أي فكرة يمكن ان تراودها إن نوت تجاوز الاراضي الاوكرانية الى جاراتها، بعد ان تكون قد سيطرت على اوكرانيا وأحدثت انقلاباً كبيراً كانت تريده في الحكم، وهو ما لم يتحقق بعد مرور اكثر من 23 يوماً على سير المعارك فيها.

 

عند هذه المؤشرات توصلت المراجع الديبلوماسية والاستخبارية الى قراءة التداعيات الدولية التي عكستها العملية العسكرية. فقرأت شمولها العالم أجمع، الى درجة «أيقظت العالم الذي لا ينام». ولذلك فقد ثبت من انّها تجاوزت اعتبارها «حرباً اقليمية»، ولم ترق بعد إلى «حرب عالمية ثالثة». وهو ما لن يُسمح بالوصول إليها، أياً كانت الكلفة المقدّرة ان تدفعها أوكرانيا لوحدها. فالدول الداعمة لها لم تتورط حتى اليوم بأي عمل عسكري مباشر، يعطي الذريعة للقيادة الروسية لتوسيع نطاق عملياتها العسكرية، وإعادة النظر التي لا بدّ منها، بلائحة الأهداف الكبرى المحتملة التي يمكن ان تطال دولاً اخرى من جاراتها.