Site icon IMLebanon

مفارقات «غريبة» على هامش «الحرب الأوكرانية»

 

مما لا شك فيه انّ الحرب الروسية – الأوكرانية فجّرت كثيراً من الأزمات العالمية وعطّلت مفاعيل المواثيق الدولية التي تحمي الدول «الصغيرة المستقلة» من جاراتها العظمى. وإن لم تكن هذه التجربة جديدة، فالتاريخ حافل بمثيلاتها. إلّا انّ المستغرب ان يُظهر بعض الدول تعاطفاً مع أحد طرفي القتال، وقد سبقته إلى تجارب مماثلة، ما يصعّب عليها تبرير مواقفها. وعليه، كيف يمكن الإحاطة بهذه المفارقات الغريبة والعجيبة؟

بغض النظر عن الذين التزموا الدفاع عن أحد طرفي النزاع روسيا وأوكرانيا لأسباب مبرّرة، نتيجة اتفاقات اقليمية ودولية واحتراماً لمواثيق الأمم المتحدة التي ترعى العلاقات بين الدول المستقلة، فإنّ الاجتياح الروسي لأراضي اوكرانيا تسبّب بهزات متفاوتة على مساحة الكرة الأرضية. وعلى الرغم من وجود دول قليلة برّرت للرئيس الروسي فلاديمير بوتين حملته العسكرية، فإنّ عشرات الدول سارعت إلى معاقبته في مختلف المجالات، الديبلوماسية والاقتصادية والعسكرية والمالية، وصولاً الى البر والبحر والجو، إلى درجة بات الحصار المُعلن عنه يطوّق الرئيس شخصياً ومعه أركان حكومته وأصدقاؤه، عدا عمّا بدأ يظهر من معاناة لا بدّ ان تعيشها روسيا الاتحادية على كل هذه المستويات، ولو بفوارق مختلفة بين قطاع وآخر.

 

وإن توسعت المراجع الديبلوماسية في البحث عن الأسباب الموجبة التي دفعت بوتين الى هذه العملية العسكرية لتبريرها او إدانتها، فإنّها مضطرة الى التوقف عند ما يبرّر هذين الوجهين المتناقضين لمقاربة «المعادلة الناشئة» على حداثتها. فقد تسارعت التطورات العسكرية والديبلوماسية، وتنامت المواقف الحادّة منها في خلال أيام قليلة تلت ساعة الصفر للاجتياح الروسي لأراضي جارتها من جهات عدة، استخدمت فيها المعابر المؤدية عبر الحدود المشتركة، وتلك التي تمتلكها جارتها الأقرب بيلاروسيا التي انضمّت الى حملتها علناً مع دول اخرى من الجوار الروسي كالشيشان مثلاً.

 

وانطلاقاً من هذه المعطيات، فإنّ المواقف الإقليمية والدولية دلّت إلى فرز عميق بين مجموعة صغيرة من الدول المؤيّدة لروسيا، التي لا تتجاوز اصابع اليد الواحدة، والتي شاركتها مخاوفها على أمنها القومي من خاصرتها الأوكرانية الرخوة، في مواجهة مجموعة كبرى وقفت إلى جانب اوكرانيا ولم تبرّر لبوتين مخاوفه من انضمام أوكرانيا الى مجموعة دول الحلف الاطلسي، على الرغم من سعيها إلى هذا الموقع منذ العام 2008، بعدما انتشر الحلف في دول عدة من الاتحاد السوفياتي السابق إثر انهياره منتصف تسعينيات القرن الماضي نتيجة انتصار نظرية «البيريسترويكا».

 

وإن تعمّقت مراجع ديبلوماسية في قراءتها لخريطة المواقف الإقليمية والدولية مما يجري، يبدو من السهل التوصل الى ما يمكن اعتباره مجموعة من المفارقات العجيبة والغريبة التي تخلّت فيها بعض الدول عن مبادئها وسياساتها التي وفّرت لها قوة ومناعة في محيطها، وجعلتها في موقف مغاير، إلى درجة يمكن القول إنّها أدانت نفسها بنفسها، والأمثلة عدة وليس من الصعب فهمها بعد التصويب عليها، سواء على مستوى الداخل اللبناني او الأبعد منه في اتجاه الاقليم والعالم.

 

واستناداً إلى هذه المؤشرات، تبدو المفارقات في الداخل اللبناني هي الأقرب الى قراءة الفرز الحاصل بطريقة متناقضة تنافي مجموعة من المبادئ التي ميّزت القوى اللبنانية في سياساتها الداخلية والخارجية. فمن أيّد وزارة الخارجية وتفهّم إدانتها لـ «الاجتياح الروسي لأراضي اوكرانيا» ودعوتها روسيا إلى «وقف العمليات العسكرية فوراً وسحب قواتها منها والعودة إلى منطق الحوار والتفاوض كوسيلة أمثل لحلّ النزاع»، رأى في «التجربة الأوكرانية» إحياء لذاكرة اللبنانيين ومعاناتهم الشاملة مواطني دولة صغيرة تعاني من محيطها القوي».

 

فمعاناة اللبنانيين من الاجتياحات الاسرائيلية والوصاية او الاحتلال السوري، لا تبرر تفهّم البعض لهواجس موسكو على «أمنها القومي». فدمشق وتل ابيب برّرتا عملياتهما في لبنان بما اعتمدته روسيا مبرّراً للاجتياح. وفيما كان المنطق يقول ان يكون اللبنانيون في خندق واحد متضامنين مع كييف في مواجهة موسكو، لم يحصل ذلك، فإنّه ليس امراً غريباً. ففي هذا الفرز ما تترجمه مواقف دولية واقليمية، تجاوزت فيه بعض الدول ممارساتها وغزواتهم لجارتها لتعبّر عن مواقف متناقضة ولو بصورة غير متكافئة بين من انتصر لروسيا او اوكرانيا على مستوى الدول والمؤسسات والمنظمات الاقليمية والقارية والدولية التي أبعدت موسكو عن منتدياتها حتى الرياضية منها والثقافية، بالإضافة الى المالية والديبلوماسية وحركة النقل الجوي، الى ما هنالك من عقوبات اقتربت من ان تكون شاملة لمصالح روسيا للمرة الاولى في التاريخ.

 

وعليه، فإنّ قراءة المواقف الاقليمية والدولية وضعت دولاً عدة تحت المجهر عينه. وباستثناء ما يبرّر مواقف بيلاروسيا والشيشان ودول الجوار الروسي التي تدعمها، يجدر التوقف أمام موقفين لافتين وهما:

 

– كيف يمكن لإيران مثلاً، التي تدين ما يجري من تدخّلات دول كبرى في شؤون جاراتها في فلسطين المحتلة واليمن ولبنان وسوريا وحتى في فنزويلا ودول اميركا اللاتينية كما في افغانستان، ان تبرّر للرئيس الروسي عملياته في أوكرانيا فتنتصر له؟

– وكيف يمكن للصين التي تنتصر لبعض الدول التي تعاني ما تعانيه اوكرانيا ان تتفهم الموقف الروسي؟ وهل يكفي انّها تحلم بتقليد «التجربة الروسية» في جزيرة القرم ومحيطها لاستعادة «أرض سليبة» لها في تايوان لتكون في موقعها اليوم؟

 

وفي المقلب الآخر، فإنّ نظرة مماثلة تضع دولاً أخرى موالية لأوكرانيا تحت المقصلة عينها. ومنها على سبيل المثال:

 

– كيف يمكن لتركيا مثلاً ان تقف ضدّ موسكو في عملياتها وهي التي تلاحق الأكراد في شمال العراق وسوريا تحت حجة حماية أمنها القومي، وهي التي وضعت يدها على قبرص التركية باعتراف أحادي لم يشاركها احد فيه حتى اليوم، قبل ان يعترف بوتين بالإقليمين المنفصلين عن الدولة الأوكرانية الموحّدة والاعتراف المنفرد باستقلالها؟

– وكيف يمكن لإسرائيل التي اجتاحت أراضي جاراتها منذ إنشائها بذريعة حماية «أمنها القومي» احتلت ودمّرت لبنان وغزة والضفة الغربية وما زالت تحتل الجولان السوري، ان تكون الى جانب اوكرانيا في مواجهة صديقها الروسي الذي ما زال يبرّر لها عملياتها العسكرية في سوريا؟

 

قد تكون هذه القراءة المبسطة غير كافية للتوقف عند بعض المعطيات التي تبرّر اياً منها، أو تدينها وتخفف من جرم قد أرتُكب، فإنّ ما جرى في أوكرانيا هزّ العالم. فالاعتقاد كاد يسود بأنّ الحروب تحولت منذ عقدين من الزمن الى حروب العقوبات الاقتصادية والتحالفات المالية والنفطية، ولربما كان العالم سيستغني عن الأسلحة التقليدية والبالستية والدبابات. وقد كان ذلك قبل ان يستنفر الدب الروسي آلته النووية من جانب واحد، رداً على استنفار اوروبي واميركي دعماً لاوكرانيا سواء كان مبرّراً أم لا.

 

وفي المحصلة، يبدو للمراقبين، انّ النتيجة واحدة، وبعدما طُرحت بعض الاسئلة التي لا أجوبة لها بالسرعة التي اكتسبتها الحرب على أوكرانيا، ومنها، هل ستبقى الحرب محصورة بأراضيها من دون ان تتمدّد الى جاراتها الخائفة مما يجري، إن أخضعها بوتين لتصنيف مشابه لأوكرانيا، وتعاطى معها بالمنطق عينه؟ أم انّ موسكو وقعت في «الفخ الأوكراني» وانغمست فيه لتدعو فرنسا الى الاستعداد لحرب طويلة فيها؟!