إذا كان الخلاف حول السياسة الداخلية معقولاً ومقبولاً فإن الخلاف على السياسة الخارجية غير مقبول وغير معقول لئلا تكون له انعكاسات سلبية على الوضع الأمني وعلى العلاقات مع الدول، وهو ما حصل في الماضي فدفع لبنان غالياً ثمن انحيازه إلى هذا المحور أو ذاك من سيادته واستقلاله وأمنه واقتصاده، وهو ما يحصل اليوم مع المحور الإيراني – السوري والمحور المناهض له، فكان أول الغيث وقف المساعدة السعودية للجيش اللبناني ولقوى الأمن الداخلي.
لقد صار المطلوب من القادة تحديد سياسة لبنان الخارجية تحديداً واضحاً لا لبس فيه ولا تفسير ولا اجتهاد، فإما أن يكون لبنان دولة عدم انحياز، وإمّا أن يكون دولة انحياز، ولا انتقائيّة في موقفه هذا ولا استنسابية.
المرشّح للرئاسة الأولى النائب سليمان فرنجية كان قد دعا الى التقاء 8 و14 آذار في منتصف الطريق من دون أن يحدّد نقاط الالتقاء، ووافق المرشّح الآخر للرئاسة العماد ميشال عون بهز رأسه على البنود العشرة في “إعلان النيات” مع “القوات اللبنانية”، لكنه ما لبث أن نقضها بعد أيام في مقابلة تلفزيونية، فبات مطلوباً ليس الاتفاق على مرشح للرئاسة إنّما الاتفاق أيضاً على السياسة الخارجية التي عليه التزامها وإلاّ واجه الأزمات عند تشكيل الحكومات وعند وضع بيانها الوزاري.
إن الخلاف بين 8 و14 آذار ليس خلافاً بين أشخاص بقدر ما هو خلاف بين مشروعين أو خطين سياسيّين، وما لم يتم التوصّل الى اتفاق على مشروع واحد وخط سياسي واحد فان لبنان لن يشهد استقراراً سياسيّاً واقتصادياً ثابتاً ودائماً. فقوى 14 آذار هي مع قيام دولة قوية قادرة على بسط سلطتها وسيادتها على كل أراضيها، فلا تكون دولة سواها ولا سلطة غير سلطتها، وأن يوضع سلاح المقاومة بقيادة “حزب الله” في كنف الدولة للاستعانة به عند الحاجة خصوصاً عند مواجهة عدوان إسرائيلي، وأن لا تكون الدولة منحازة إلى أي محور من المحاور المتصارعة، وان تكون مع الاجماع العربي وحتى الدولي وعلى الحياد من دون هذا الاجماع. أما قوى 8 آذار فتريد دولة الى جانبها دولة “حزب الله” لها قراراتها المستقلة في الحرب والسلم خلافاً لما نص عليه الدستور، وان تكون مع المحور الإيراني – السوري في مواجهة محور آخر، ما جعل كل حكومة تتجاذبها سياستان، سياسة قوى 8 آذار وسياسة قوى 14 آذار، التي أوصلت لبنان إلى ما هو عليه اليوم من مناكفات ومتناقضات.
لذلك بات ضرورياً وملحّاً توحيد السياسة الخارجية فلا تظل لكل فريق سياسة تتصادم وسياسة أخرى، ولا شيء يوحدها سوى تحييد لبنان عن صراعات كل المحاور وأن يكون السلاح حصراً في يد الدولة ولها الإمرة على كل سلاح خارجها إذا ظلّت الظروف تفرض وجوده. وإذا كان من التقاء في منتصف الطريق بين 8 و14 آذار فعلى هذه السياسة، وأن يلتزمها كل مرشح للرئاسة وتكون شرطاً لتأييده وأساساً لتحقيق مصالحة وطنية حقيقية شاملة وثابتة، فالمصالحات الشخصية تبقى ظرفية وعابرة ولا شيء يرسخها ويديمها سوى وحدة الهدف التي من دونها لا وحدة صف.
الواقع ان الاتفاق بين كل القادة على تحييد لبنان عن صراعات المحاور هو الذي يحمي وحدته ويرسخ العيش المشترك والسلم الأهلي ويبدد الهواجس لدى كل مكوّن من مكوّناته بحيث يصبح في الإمكان الغاء الطائفية السياسية وجعل المناصب العليا في الدولة مفتوحة أمام أصحاب الكفاية والجدارة الى أي حزب أو مذهب انتموا، ولا يظل الصراع على السلطة له طابع مذهبي أكثر منه سياسي ووطني. والاتفاق على تحييد لبنان هو الذي يقيم الدولة القوية القادرة على بسط سلطتها وسيادتها على كل أراضيها وعلى تطبيق القوانين على الجميع وفي كل المناطق بحيث لا يعود اللبناني يهمه من يكون رئيساً للجمهورية ومن أي طائفة أو حزب، ولا من يكون رئيساً لمجلس النواب ورئيساً للحكومة، ولم تُسند هذه الحقيبة أو تلك عندما تقوم في لبنان دولة مدنية، دولة غير منحازة إلى أي محور هو في صراع مع محور آخر، دولة تقدم بكل سلطاتها مصلحة لبنان على كل مصلحة، دولة يدين كل أبنائها بالولاء للبنان وحده ويدير الحكم فيها الأصلح والأنجح والأقدر والأكثر نزاهة واستقامة وشفافية، فتنتفي عندئذ أسباب الخلاف على قانون للانتخاب ولا تبقى حاجة حتى إلى إنشاء مجلس للشيوخ لحماية حقوق المذاهب والطوائف وخصوصيّاتها، لأن تحييد لبنان كفيل بتأمين هذه الحماية. فلا يكفي إذاً التوصّل الى اتفاق عابر على انتخاب رئيس للجمهورية انما الاتفاق أيضاً على أي جمهورية وعلى أي نظام ودستور لها، فلا يظل لبنان يحكم بديموقراطية هجينة تارة وبديموقراطية الأكثرية وديموقراطية التوافق تارة أخرى، حتى إذا تعذّر تطبيقها كان الفراغ الشامل والشلل الكامل لكل السلطات والمؤسّسات، وعندها لا تبقى جمهورية ولا رئيس لها. فليكن الاتفاق إذاً على أي جمهورية وعلى أي رئيس مناسب لها لنعيد القول: “هنيئاً لمن له مرقد عنزة في لبنان”.