أسئلة حول القيادة والدور في الكيان والوطن
فرادة كمال جنبلاط..
أمام كل ما يُحدق بلبنان والمنطقة من تحديات ومخاطر تهدد وجود الدول وتعيد رسم الخطوط بين الطوائف والإثنيات، لا بد من التوقف عند محاولات جدية جرت في سياق بناء مجتمعات خارج الأطر التي تفرّق بين المواطنين، ومن ضمن هذه المحاولات ما قام به المعلم كمال جنبلاط في لبنان بوجه التحديد.
لقد استشعر هذا القائد المخاطر المحدقة بلبنان الدولة منذ زمن بعيد، فقام مشروعه السياسي على بديهية الانتقال من الكيان التأسيسي إلى الوطن الناجز لكون المطلوب أساساً هو البحث عن عقد مجتمعي يمثل صيغة مستدامة لعيش اللبنانيين. وما بحث عنه كمال جنبلاط منذ ذلك الحين يبقى لحد اليوم الإشكالية الرئيسية في ما نذهب إلى معالجته. فما بين الكيان الذي تعلّق بالفكرة النواة التي أسّست للبنان وطوّرته من مجموعة إمارات عائلية وإقطاعات، إلى دولة لها معالم ومحددات ملموسة، وبين الوطن المقترن بالخروج من الأطر تلك إلى دائرة الواقع المشترك والفضاء المتخطي للمحليات الضيقة، يكمن جوهر الفعل السياسي الذي تبنّاه المعلم والهادف إلى إصلاح الحياة السياسية في لبنان.
إصلاح بقي يصارع حتى يومنا هذا، لأن الكيان يتفوّق على الوطن في جولات واستحقاقات كثيرة، ولأن الفضاءات التي حكمت الوعي الغالب لفئات لبنانية تأرجحت بين الإفراط في «المحليّة» بتشعباتها الطائفية من جهة، والإيغال في التماهي مع قضايا الخارج واصطفافاتها من جهة ثانية، ولا شيء كان يوحي بدوام الدولة سوى بعض التسويات المرحلية التي غالباً ما صاغها اللبنانيون على عجالة. ونحن عندما نستذكر تجربة كمال جنبلاط اليساري العلماني، لا بدّ من السؤال عن عالم يتحوّل باتجاهات معاكسة ومنطقة تتغيّر كلياً عمّا أوحت بإمكانية تحققه في مراحل سابقة.
وأمام كل ذلك، يمكن التساؤل عمّا أنجزته مشاريع ونضالات الرجال الكبار، ومنهم كمال جنبلاط، الذين أرسوا قواعد التغيير في العالم العربي وصاغوا أطره النظرية. وأيضاً عمّا يمكن فعله باتجاه إعادة الاعتبار للسياسات والتحالفات التي تصبو إلى تحقيق الأهداف ذاتها.
طبعاً لم يفشل كمال جنبلاط في إرساء تحولات جذرية في البنية السياسية، لكي يُقال إن تأثيره اقتصر على المفاهيم فقط، وحلمه في الدولة العادلة الخالية من الفساد لم يتحقق. ربما تعثر البرنامج المرحلي للحركة الوطنية نتيجة ظروف وعوامل قاهرة، إلا أن هذا البرنامج هو الذي رسم المعالم الفعلية للإصلاح وحدّد عناوينه الرئيسية، ثم الأهم أنه ربط بين مستوياته كافة، السياسية منها والاقتصادية. ولا مخرج حقيقي من الأزمات المتتالية التي تحدق بلبنان إلّا من خلال العودة إليه.
وقد يكون التحدي اليوم أصعب مما كان عليه أيام المعلم، إذ إن الحفاظ على ما تبقى من معالم الدولة بات يفترض العودة إلى لحظات تأسيسية تغذّي فينا التوق إلى ما يجمع بين اللبنانيين وينزع منهم كثيراً من الإدخالات التي كانت سبباً لنزاعاتهم. وهذا الأمر قد يكون مستحيلاً اليوم في ظل التشظيات التي تصيب المنطقة، ونتيجة تحميل الدولة طموحات وأثقالاً تعجز عن تحمّلها.
وفي ظل النقاش الذي تخوضه الطبقة السياسية في البلاد حول مستويات التمثيل الديموقراطي وتغيير الأحجام والتحالفات واختلاط الحياة الحزبية والسياسية بالعائلية وغير ذلك، مما يمكن أن نخلص عبره إلى الاستنتاج بأن الواقع السياسي في لبنان هو غير نمطي ولا يمكن تأطيره وفقاً للحاجة أو تلبية لمشيئة تُفرض عليه بالقوة، فيتمّ تحجيم هذه الحالة وتضخيم تلك تبعاً للتوازنات الخارجية أو حتى لبعض الإرادات الداخلية. وربما المجازفة في ذلك غالباً ما تكون مكلفة وغير مجدية في الوقت ذاته، خاصة إذا ما تعلّق الأمر بقصور في فهم التحولات المجتمعية التي حصلت في لبنان وكرّست وقائع ومفاهيم جديدة.
وتشكل تجربة المعلم كمال جنبلاط في هذا الإطار نموذجاً للانتقال من الخاص إلى العام ومن الذاتي إلى الموضوعي في النظرية والتجربة على حد سواء.
وفي هذا الإطار، يمكن الاستنتاج بأن الفعل الذي أكسب كمال جنبلاط فرادته تعلّق أساساً بقدرته على تخطّي الوظيفة التقليدية للزعامة الجبل – لبنانية وأخذها إلى مرتبة القيادة الوطنية، خاصة بعدما أكسب تلك الزعامة مؤثرات فكرية نقلت جمهوره ومحازبيه إلى الحاضرة الإنسانية والاشتراكية وأدخلت إلى الحياة السياسية صيغة البرامج المرحلية والعمل الجبهوي. لقد تخطّت حالة كمال جنبلاط كثيراً من الاعتبارات المحلية وأخرجت نفسها من دائرة المنافسة التقليدية دون أن تهمل شروط التفاعل اليومي مع الناس، ومن هذه الجدلية انطلقت فكرة الحزب التقدمي الاشتراكي التي التفت حولها نخب مختلفة وعابرة للمناطق والطوائف والزعامات.
وبهذا الفعل، أغلق كمال جنبلاط الباب أمام تحوّلات لاحقة يمكن أن تقلل من شأن زعامة المختارة أو تحجّم دورها الذي اكتسبته في القيادة الوطنية لتعيدها إلى الإطار المحلي.
ثمة مسافة «وطنية» فاصلة بين زمن المعلم كمال جنبلاط وما نحن عليه اليوم، ولهذا الأمر أثره في المعركة من أجل الحفاظ على لبنان وتطوير صيغة عيش أبنائه، وهي الصيغة الخالية من تشوّهات مَرَضية عرفتها السياسة اللبنانية في مراحل عديدة. صحيح أن المسافة تلك لم تضمن انتقال لبنان إلى دولة ذات مقوّمات حقيقية إلا أن شروط ذلك ليست عصيّة على الفهم، إنها الفضاءات التي تُخرجنا من الكيان إلى الوطن وتعيد تركيب البرامج التي تحدّث عنها الشهيد كمال جنبلاط.
(]) عضو مجلس قيادة «الحزب التقدمي الاشتراكي»