ما زالت روسيا تمسك بالحديد والنار، بزمام الأحداث في سوريا، ومما هو واضح من تسريعها لخطى تلك الأحداث بما تملكه من وسائل الدمار الشامل والقتل المتفلت من كل الضوابط الأخلاقية والإنسانية. دون أن ننسى استعانتها «بالحليف» الإيراني واستغلال اندفاعه التوسعي وصولا به إلى لبنان وإلى سواحل المتوسط، دافعا بالميليشيات الشيعية التي زرعها في المنطقة وفي بعض البلدان الإسلامية لتكون العسكر البديل عن عسكرها الذي يتلقى الضربات والصفعات الدفاعية مكتفيا بالتمويل والتسليح ودفع الرواتب، مما دفع بجموع من الشعب الإيراني للإنتفاضة على وضع البلاد الاقتصادي والمعيشي والأمني المتسلط، على مسيرتها الحياتية منذ انقلاب الإمام الخميني وحتى هذا التاريخ.
لقد حققت روسيا الكثير من أهدافها من خلال سيطرتها على موقع هام من منطقة الشرق الاوسط، وهو إنجاز لها لا بد من الاعتراف بحصوله وأهميته، إلاّ أنه كان إنجازا مكلفا على جميع الصعد الإقليمية والدولية، فضلا عن كونه يدخل في الحسابات الاقتصادية الروسية المحلية حيث أن روسيا، مهما تاجرت واستثمرت في حقول النفط والغاز، وفي استعراض أسلحتها الحديثة المتطورة لإثبات جودتها وتقنياتها العالية وفعاليتها وربما سبقها للآخرين في بعض الحقول، فهي تبقى ذات طاقة إقتصادية محدودة المدى والإمكانات. ومهما كسبت من منافع من خلال تآمرها على الدولة السورية والوجود الوطني السوري فهي بدأت من دون شك، تشعر بالخناق يحيط برقابها متعددة الرؤوس والفروع، فما يحصل يستهلك إمكاناتها ويثير من حولها انتفاضات دولية تطاولها، لعل أبرزها تلك الحرب الديبلوماسية التي أنشأها تهورها في قضية الجاسوس الروسي، وذلك التكاتف الغربي مع بريطانيا، المتحركة الأولى بهذه القضية حيث بدأت عملية طرد الديبلوماسيين الروس من قبلها، وسريعا ما واكبتها تصرفات مماثلة من عمليات الطرد من قبل ما يزيد على العشرين دولة وفي طليعتها، الولايات المتحدة وعدد كبير من الدول الاوروبية، وهي تصرفات تطاول بجزء منها قضية الجاسوس الروسي وما رأت فيه لندن تعرّضا لسيادتها وكرامتها الوطنية، ولكن في الوقت نفسه، يمثل انتفاضة غير مباشرة بوجه التصرفات الروسية في العالم عموما، وفي الشرق الأوسط خصوصا، وفي سوريا على وجه أخص.
ان المستجدات الأخيرة تدل على أمور عديدة:
إن المصالح المرتبطة بالقوى العالمية وفي طليعتها الولايات المتحدة وروسيا، بدأت بجملة من الصدامات الخفية والمعلنة ما بين الدولتين المذكورتين، ومهما كانت تصريحات الرئيس الأميركي ترامب تذهب إلى أنها في صدد الانسحاب من المنطقة، فهي بالنتيجة تصريحات تحايلية تصدّى لها كبار المسؤولين الأميركيين، مؤكدين على أن الانسحاب الأميركي فكرة من أفكار ترامب التي لئن صحّت، فهي تبدو تنازلا منه عن موقفه من إيران وميلشياتها ومن أخطارها التي تطاول بالنتيجة منطقة الشرق الاوسط بأسرها، كما تطاول المصالح العليا للولايات المتحدة الأميركية، ولئن كان ترامب يزعم بأنه حقق أهدافه بطرد داعش من أماكن تمحورها في المنطقة يتناقض مع عودة داعش إلى البروز في غرب الفرات معتمدة أسلوب حرب العصابات، ومتجهة إلى مقاتلة من يتصدون لها ممثلين بالنظام السوري وروسيا والولايات المتحدة وإذا ما لحظنا أن عودة داعش، إلى البروز وإلى مواقع القتال أمر لا يستقيم مع ما قد حصل في الواقع العملي في عملية التصدي لها، وإذا ما لحظنا أن داعش قد تُرِكت في بعض الأماكن دون التعرض لها من الجميع وخاصة من روسيا والولايات المتحدة، يتبين لنا من الوقائع الحاصلة والمستنتجة، أن البقايا الداعشية قد تركت حيث هي عن سابق تصور وتصميم، وأن ما تم ضربه واقتلاعه في تلك الأماكن هو في الواقع قوات المعارضة السورية، وأن داعش تركت بقاياها لأوقات الحشرة والتنفيذ العملي والنهائي للمخططات المشبوهة سواء كانت روسية أم أميركية، لنستنتج من خلال الوقائع المستجدة، ومن ناحية أخرى من المشهد السوري الملتهب أن روسيا قد باتت تشعر بأنها بقدر ما استفادت من حربها في سوريا فهي في الوقت نفسه قد استُهلكتْ إلى حد كبير في طاقاتها مختلفة الاشكال والأنواع، وأن اقتصادها قد وصل إلى وضعية القلق الشديد، وأن الولايات المتحدة بقدر ما أثبتت أن الشعب السوري لا تعنيها سلامته وحياة أبنائه من قريب أو من بعيد، بقدر ما أثبتت أيضا أنها تستهدف، الإسهام في خنق الطموحات الروسية، جنبا إلى جنب استهدافها كبت قواها الصاعدة والتي يتعمد الرئيس الروسي بوتين في إظهارها والاستعراض بها منطلقا من أكثر من موقع، وإن كان الموقع السوري هو الأبرز والأخطر، خاصة إذا ما وصلنا في التحاسب معه إلى الصعيد الأخلاقي والإنساني.
لهذا، لمسنا مؤخرا، نوعا من أنواع إسراع الخطى الروسية الساعية إلى إنهاء أحوال التدهور في الوضع السوري حرصا منها على ألا تقع في مستنقع الأحداث القائمة والمستمرة إلى ما شاء الله، وما شاء لها حافرو البؤر والأفخاخ.
وها هي الولايات المتحدة تتلاعب مجددا بكل قضايا العرب وفي طليعتها قضيتان رئيسيتان: فلسطين بقدسها ومسجدها الأقصى وكنيسة القيامة، والقضية الفلسطينية بجذورها العميقة، وسوريا، تمد اليد تارة لروسيا وتسحبها تارات وكل من ترامب وبوتين، آخر همهما اولئك الشهداء المدنيين الذين يسقطون يوميا وبالمئات على الأرض السورية. الهمّ الأول لكليهما: مصالحهما الاستراتيجية والاقتصادية واعتمادهما المستمر لمبدأ متأصل لديهما: إسرائيل أولا، ومن بعدها الطوفان.
المحامي محمد أمين الداعوق