لا أعرف ما إذا كان هذا العنوان كافيا شافيا شاملا أيضا، للإساءة الدولية للبنان، وللقهر الذي يمارس عليه، حتى بات اللبنانيون يعيشون يوميا الوسواس القهري، حين يتذكرون الحروب التي مرّت ببلادهم وطحنتهم وشتّت شملهم، وشرّعت البلاد في هذا الوطن الجميل، على كل المحن والإحن، على كل المؤامرات، على كل المعسكرات. تلك التي عاثت في لبنان، فأنهكته ودمرته وجعلت أبنائه يصابون بالهستيريا، وبما يسمّيه علم النفس الإجتماعي: «الوسواس القهري»، والذي ظهرت بوادره عند كثير من الشعراء والمفكرين والكتّاب والأدباء والمتأدبين، وفي طليعتهم، الشاعر أدونيس، كما يقول أحد الباحثين.
أصاب المجتمع الدولي اللبنانيين في كبدهم، بما لم تصب به جميع شعوب الأرض. إستمر في النظر إلى لبنان، على أنه موطن الهجرات الناتجة عن الحروب الدولية المحيطة به. فصار يعاني عبر الأزمنة الطويلة، من وسواس التغيّر الديمغرافي. حروب البلقان، دفعت بالمهاجرين إليه. والحروب على بلاد العراق، دفعت بالمهاجرين إليه، والحروب على سوريا وبلاد الشام، دفعت بالمهاجرين إليه، وصار اللبنانيون محاصرين بين أمواج الهجرات على مرِّ السنين.
وجد لبنان نفسه أمام الأمر الواقع، فكان يصوغ من الهجرات، قرى وبلدات ومناطق ومخيمات. حتى ضاقت نواحيه بأهله، من الشمال إلى الجنوب. أما المجتمع الدولي، فظلّ يتفرج عليه، دون أن يقدّم له أية مساعدة، دون أن يقدّم له أية حلول، وهو يرى تدفق النازحين واللاجئين والمهاجرين إليه، ويشجّع ويدعم ويموّل ويسهّل، الهجرات المختلفة إليه، دون أن يبادر لرسم خارطة طريق لنهوض لبنان بالأعباء التي تثقله، جرّائهم. تلك التي باتت تهدّد كيانه وتجعله يصاب بالأمراض الإجتماعية، وبالأمراض الوطنية، وبالأمراض القومية.. فتنشأ عن ذلك الفتن التي تدفع إلى التنابذ والتقاتل والحروب، وإلى الإرتهان للحروب المجاورة ودفع المكوس لها، من النفوس والدماء.
عانى لبنان، بعد حرب النكسة 5 حزيران 1967، من وطأة الحروب التعويضية البديلة، لهزيمة الجيوش العربية. تلك التي بدأت بحرب الإستنزاف في مصر وسوريا. ثم إنتهت بالعمل الفدائي. وبما عرف طيلة نصف قرن، بالمقاومة الفلسطينية. حتى صارت طريق القدس تمرّ بجونية، تماما كما تعبّد اليوم بجثامين الشهداء من اللبنانيين.
تموضعت المقاومة الفلسطينية في لبنان، وبدأت أعمالها العسكرية على الحدود مع فلسطين. كانت تستقدم السلاح والمسلحين من شتى أرجاء الأرض. فيتهدد لبنان في أرضه، وفي سمائه، وتدفع مدنه وقراه وإنشاءاته وبناه التحتية، الأثمان الغالية. ضربت المدن اللبنانية، وضربت العاصمة بيروت، وضربت قرى الجنوب، وخربت حياة اللبنانيين، خرب اقتصادهم، وخربت منتجعاتهم، وتهدّمت قرى الأصطياف، قرى الجبل عندهم.
وجراء ما كان يجري على أرضه، دفع العدو الإسرائيلي، بترسانته العسكرية إليه، في عدة حروب متتالية. كان يحتل القرى والبلدات. ثم وقع الإجتياح حتى وصل إلى بيروت والجبل. فدفع لبنان الأثمان الباهظة، كنتيجة حتمية للحروب وللإجتياحات العسكرية، من كرامته ومن معنويات أهله. ووقع في خسائر مادية لا تقدّر بأثمان. وظل العالم يتفرج على ما يصيب البلاد من مهانات ومن خسائر، دون أن يضع خارطة طريق لإنقاذه من كثرة الحروب في أرضه. وليست آخرها طوفان الأقصى، وحرب غزة والحرب في الضفة وفي الجولان.
كان للطائف أن يعيد لبنان إلى المجموعة الدولية، وأن ينحو نحو نشدان النشاط والإزدهار. عاش عقدا من الزمن، مؤملا بالخير والخيرات، وأنه سوف يكون البلد المزدهر، وأنه في عيون العالم، لا يسمحون بالإعتداء عليه، غير أن العدو لم يرحمه، فظل يغير عليه ويروّع سكانه ويفتك بهم، بطائراته وبصواريخه وبترسانته العسكرية، ويحرق الغرس والزرع ويهدم القرى والمدن في العام 1996، ومجزرة قانا خير شاهد على إجرامه. أما العالم فظل من حول لبنان يتفرج على ما يجري، دون أن يردع الأعداء المجرمين، ويوقفهم عند حدّهم.
وفجأة إشتعلت حرب الخليج الأولى والثانية، كما الحروب في سوريا، واشتعلت الحروب من جديد، في العراق، واشتعلت الحروب في فلسطين وغزة. وتدفق اللاجئون والنازحون والمهاجرون، في «الربيع العربي» بكل قسوة، وبكل قوة إلى لبنان. وأضيفت إلى مخيمات اللجوء الفلسطيني، مخيمات النزوح السوري. فتحت الحدود على مصراعيها، في غفلة القوى اللبنانية عنها. صار التسلل ظاهرة يومية بالآلاف. صار التدفق إلى كل المناطق والقرى. ضاع اللبنانيون بين الملايين الجدد القادمين إليه من كل الجهات. إنتشروا حيثما وجدوا لهم رقعة للإنتشار. وتجمعوا حيث وجدوا الملاذ. وصاروا عبئا على اللبنانيين. فتعالت الأصوات لإعادتهم إلى البلاد والأوطان التي جاءوا منها. صار العبء ثقيلا، وقد إشتدّت الأزمة على لبنان، فلم تعد الكهرباء كافية، ولم تعد المياه تكفي، مع دخول لبنان في النفق المظلم، حيث أدار له المجتمع الدولي ظهره. وسدّ أذنيه وأغمض عينيه، عن كل ما يجري على البلاد والعباد في لبنان.
وعادت الحروب إلى أرضه، وبدأت الأعمال العسكرية تناله في القرى والمدن، تتجاوز الحدود لتصل إلى بيروت، وإلى كل المناطق التي تريد أن تصل إليها.
صار على لبنان واللبنانيين، أن ينتظروا إنتهاء الحرب على غزة والقطاع والضفة، وفي المضائق والشواطئ وفي البحار. وصار اللبنانيون جميعا، مهددون في بيوتهم الآمنة. صارت الحياة المدنية كلها في خطر. وباتت العودة لتفقّد البيوت على الحدود، لمما تهدد الناس بالموت والإحتراق في المركبات وفي السيارات.
في ظل هذا كله، يرفض المجتمع الدولي التخفيف عن لبنان، بتسهيل عودة النازحين السوريين، ويعرقل قرارات العودة للفلسطينيين، ويطالب الحكومة والمسؤولين بدلا من ذلك، أن تعمل على شروط تحقيق توطينهم، بحجج واهية. ويقف المجتمع الدولي، بكل هيئاته، وراء ذلك لاهيا شامتا، فلا يأبه لعدم وجود رئيس للجمهورية ولا يأبه لحكومة بالوكالة، ولا يعمل شيئا للشغور الرئاسي والإداري، ولا لتأمين الكهرباء والماء للناس، والنظر في أوضاعه الإدارية والمعاشية والحياتية الشاذة.
المجتمع الدولي، وبلدان هذا المجتمع الدولي، سادرون عما يجري في لبنان هذه الأيام. لا يلتفتون منذ السابع من أكتوبر إليه. ولا يشفقون على أهله، وقد أصابهم طوفان الأقصى بما أصابهم، وجرت محنة غزة وفلسطين مرة أخرى عليهم، بكل جريرتها، التي ناء تحتها لبنان واللبنانيون، منذ عام النكبة حتى اليوم.
يرى اللبنانيون اليوم، وقد سدّت أمامهم سبل الهجرة، وحرموا من تسهيلات السفر والإقامة والعمل. صارت جميع جنسيات العالم لها الأفضلية عليهم. أغلقت أبواب السفارات في وجوههم، فإلى من يتوجهون بشكواهم، من جور هذا الظلم الدولي الذي يحيق بهم اليوم؟ ما عادوا يتحمّلون الإدارة الفاسدة التي تسيطر على اللبنانيين، فتحرمهم من مدخراتهم، تحرمهم من أموالهم. نهبت أموال لبنان وخيراته تحت نظر المجتمع الدولي، دون أن يرأفوا به، وما نفعت العقوبات ولا الحجوزات. بل يراهم يغرقون أهله بالديون ويغرقونهم بالسلاح، ويشجعون الشعوب المسلحة، أن تحل في روابيه، أن تقتطعها لنفسها من أملاك الناس، تبني فيه الدشم العسكرية، تعزز حضورها المسلح بين سائر القوى المسلحة فيه. ولا تجد من منابر الأمم إلا من يهمل اللبنانيين، ويهتم بالنازحين واللاجئين والمهاجرين. ولا يلتفتون، إلى الجنوبيين، الذين يمنعون زرع أراضيهم ومن قطاف موسمهم، في مواسم الزروع والقطاف.
أنعموا على هؤلاء المعذبين أصلا بسببهم، بالبطاقات التموينية، وبالحسومات في المستشفيات وفي السوبرماركات وفي المدارس وفي الجامعات. يقدمون لهم المساعدات الشهرية لدفع الإجارات السكنية والتأمينات على الشؤون الحياتية، في النطاق الأسري، وفي النطاق النسبي، وفي النطاق الفردي. أما اللبنانيون وعيالهم وأولادهم، فإلى الجوع وإلى الأمراض وإلى الأمية، وإلى التسرّب المدرسي وإلى هجران الجامعات. وإذا ما فكروا في السفر من بلادهم، واجهتهم الصعوبات التي لا تحصى ولا تُعد. أولها الرسوم المرتفعة على المعاملات، من دائرة النفوس ومن دائرة العدلية ومن دائرة الجوازات، ومن مكاتب السفارات. حتى باتوا جميعا، عرضة للهجرة غير الشرعية. يستقلون قوارب الموت، ويغرقون في البحار. وأما العالم حولهم، فهم شهود الزور، إن أقاموا وإن سافروا، وإن طالبوا برواتبهم أو طالبوا بمدخراتهم في آخر النهار.
اللبنانيون اليوم يصرخون جميعا من الحاجة، ومن سوء التمييز، ومن سوء المعاملة، ومن عضة الجوع: يا شعوب العالم أجمع، إستيقظوا على مظلمتنا ومظلومياتنا. أعيدوا إلينا كرامتنا في العيش بحرية، أو في رد الظالمين. ردّوا المجتمع الدولي الظالم عنا. ردّوه عن ظلمنا، قبل أن نموت بالدائين التاريخيين: بالقهر والجوع، فلا نامت عندهم، أعين الجبناء!