IMLebanon

المجرم المجهول في لبنان

 

التعبير الأميركي «فيل في الغرفة» يشير إلى المشكلة الكبرى التي يعرف بها الجميع، لكن ينشغلون عنها بمشاكل أيضاً، ولكن جانبية.

مثقفون لبنانيون سبقوا غيرهم في الإشارة إلى الفيل، أو الغول، في غرفة المعيشة اللبنانية، أبرزهم د. وضاح شرارة في كتابه الرائد «دولة حزب الله»، الذي أطلق صفارة الإنذار في التسعينات، في أيام عز «حزب الله» الدعائي، حين كان يقدم لجماهير اللغة العربية على أنه الأمل والنموذج والمخلص.

كان حظ د. وضاح شرارة أفضل من غيره من الكتاب اللبنانيين الذين تصدوا للمشكلة بوصفها العائق الأكبر أمام أي إصلاح. الصحافيان جبران تويني وسمير قصير دفعا حياتهما ضحية لغضب «دائرة المقاومة». منذ اغتيال حسين مروة في ثمانينات القرن الماضي ورسالة حزب ولاية الفقيه في لبنان واضحة: لا تسامح!

هذا الصنف من اللبنانيين أبدى شجاعة استثنائية. ليس فقط في انتقاد الحزب، ولكن في فهم الآلية السياسية والاجتماعية للصراع. وهي مهمة أخطر كثيراً من الجدل النظري العقائدي الذي يتسلى به بعض المثقفين. فرج فودة في مصر يشهد على هذا.

صنف آخر من النخبة اللبنانية كان على النقيض تماماً. تبنى الحزب وشن دعايته المسمومة ضد منتقديه. وقدم نفسه باعتباره صاحب الأرضية الأخلاقية الأعلى، كونه المتحدث باسم المقاومة، والمستضعفين، والمهمشين، والثورية الفكرية، وألا أونا ألا دو ألا تري. هم صوت الخنادق، لا الفنادق. والمصلحة مشتركة. ثقافة تعتبر أن حياة محاطة بالخنادق أفضل من حياة سلام. يروج لها إعلاميون يريدون أن يعيشوا معيشة الموسرين، ويحاسبوا محاسبة الزاهدين المناضلين. وميليشيات تراهم مكسباً، حيث بناء منصة إعلامية أقل ثمناً من بناء نفق، لكن وجودها يحمي مائة نفق.

بعض هؤلاء قدم نفسه من خلال صحيفة عروبية، ناصرت ميليشيات الرفض قديماً وحرضت على أنور السادات ويوسف السباعي. لم يكن قتل المغدورين، تويني وقصير، في زميلتها «النهار»، ذنباً جديداً يؤرقها.

لكن الشق الأكبر من هؤلاء كان في جريدة الذراع العالماني لـ«حزب الله»، حملة الرسائل الملغمة في كل شيء، في الغناء والسينما والأدب، يروجون لـ«حزب الله» بيد، ويحاربون من ينتقده من دائرتهم باليد الأخرى… خدعة ابتكرها الحلف الفارسي، وقلدها الحلف العثماني. ولا يزال البعض ينخدع بها. خدعة أوجزها شعار «بالنهار مع المقاومة وبالليل أشرب كاس».

الصنفان السابقان على طرفي نقيض، لكن يجمعهما الوضوح في الموقف. يبقى صنف ثالث يستحق الانتباه.

صنف لسان حاله يقول: «نعم، هناك فيل في الغرفة، لكنْ هناك أيضاً قذارة وعدم ترتيب وإهمال». هذا الجنس الثالث الأكثر انتشاراً بين مثقفي اللغة العربية بوجه عام، تشعر أن العبارة الأميركية «الفيل في الغرفة» صيغت خصيصاً لهم. نمط تفكيرهم هذا نتيجة لسبب من ثلاثة:

1 – خلل التفكير المنطقي. وجود الفيل في الغرفة سينتج عنه لا محالة قذارة وإهمال. وبالتالي فوجود فساد في هذا الركن من الغرفة أو في الركن المقابل، أو تحت المدفأة، أو خلف الثلاجة، مجرد نتيجة حتمية. حتى إن نظفتها سيظل الفيل في الغرفة موجوداً، وستظل الحياة مستحيلة. لا استثمارات، لا استقرار أمنياً، لا علاقات ودية مع المحيط. أجواء مناسبة لتردي الدولة في كل منحى آخر.

2 – النرجسية. وهي داء مستشر في أوساط النخب الإعلامية بشكل عام، ولكن في أوساط مثقفي اللغة العربية وغيرها من المجتمعات المنتقلة حديثاً من الأمية إلى الكتابية بشكل خاص. إعجاب «متعلم القرية» بنفسه يجعله يتعالى على الحكمة العادية. يظل تركيزه موجهاً نحو الظهور بمظهر لائق. والمظهر اللائق عنده هو الذي إن قرأه صديقه الأوروبي أثنى عليه، لا الذي يحقق المنفعة.

كلما انطلقت أصابع الاتهام نحو «حزب الله» أضاف ولكن الحريري أيضاً، ولكن سمير جعجع أيضاً، ولكن السنيورة، ولكن رياض سلامة، ولكن كيت وكيت. يريد أن يحوز بادج «محاربة الفساد»، أو بادج «الاستقلالية» لنفسه. والمقابل أنه يشتت التفكير بعيداً عن المجرم الأساسي، الغول في الغرفة.

قد يكون أي من المذكورين اقترف مخالفات. لكن الحريري اغتيل، وجعجع سجن من قبل، والمصرفي في الحساب الأخير موظف. المجرم الوحيد الذي يخلق الأزمات الأمنية والعسكرية والاقتصادية العابرة للدول والمحطمة لحياة الأفراد، ولا يمسه أحد، باق باق.

3 – الخبث المطلق. حين كانت أميركا مؤيدة لصدام حسين تبنت بعد هجومه بالكيماوي على حلبجة سياسة اسمها «وإيران أيضاً». الهدف من السياسة لم يكن إدانة إيران. الهدف كان رفع الضغط عن صدام.

سياسة «وفلان أيضاً» ليس مقصدها إدانة فلان. سياسة «وفلان أيضاً» مقصدها رفع الضغط عن الفيل.

على النخبة الثقافية في لبنان أن تراجع نفسها أثناء المشكلة وليس بعدها، على سبيل التغيير. أن تضع نفسها في موقع المساءلة. لماذا كان الصوت المهيمن داخلها دائماً في الجانب الخطأ: في السبعينات والثمانينات مع الميليشيات الخارجة عن الدولة. في التسعينات مع الميليشيات الدينية أحياناً وضد الحريري دائماً. بعد 2005 موقف مائع يدعي أن المسافة بينه وبين الفيل مثل المسافة بينه وبين الثلاجة. بعد 2011، مع تمدد الحكم الميليشياوي إلى دول أخرى بذريعة الديمقراطية الصورية التي لم نرها أفادت لبنان شيئاً.

في جوهر منطق النخبة اللبنانية الثقافية المهيمن شيء خطأ، ربما تحتاج إلى قضاء مزيد من الوقت في لعب «الفيديو غيم» أو ممارسة رياضة تنافسية، على حساب قراءة الكتب. ميزة التاريخ الوحيدة أنه يقدم تجربة بشرية طبيعية، لا يمكنك إجراؤها في المعمل. إن لم تستفد من التاريخ بهذا الشكل فقراءتك له مجرد تضييع وقت. كـ«المحبوس بنفس الغرفة مفكر حاله أفلاطون». صار مأساة ملهاة في آن.