إنّ الحاكم الحقيقي الذي يتمتّع بصفات القائد هو الحاكم الذي يقود شعبه الى التموضع الآمن، الضامن للاستقرار وللمستقبل وللمصالح الوطنية، ويُجسّد بذلك معنى القيادة التاريخية المُتمكّنة من صيانة المجتمع وحمايته، القادرة على تأمين النجاحات في صوغ العلاقات الداخلية بين فئات المجتمع الوطني، والسياسات الخارجية المؤاتية لتدعيم الاستقرار المالي والاقتصادي والسياسي والسياحي والاستثماري. هذه القيادة الواعية بحاجةٍ دائماً لركائز اساسية تُسهّل لها الوصول الى اهدافها العامة. فبالاضافة الى اهمّية تمتّع القائد بالكاريزما الشخصية التي تعاونه على قوة الاقناع للجماعة، فهو بحاجة ايضاً لأن يكون غنياً بالفكر الواسع وبالاسلوب الذكي وبالأداء الذكي، وبالقدرة العلمية وبالجرأة على تطبيق الافكار النظرية في الجانب العملي، وإلاّ فتصبح وعوده كاذبة وإن صدق في محاولاته. ففنّ حكم الدولة كما عرّفه أندريه لالاند “يعني ما يتّصل بالدولة والحكم، وما يتعلّق بالامور الاقتصادية والقضايا الاجتماعية، كالعدالة والادارة، او بقية نشاطات الحياة المتحضّرة من مثل الفنّ والعلم والتعليم والدفاع الوطني”.
الكثيرون من السياسيين يطمحون للمراتب القيادية، وهذا الامر يتطلّب تمايزاً في المفهوم والذهنية والثقافة والعلم، والدور والممارسة، وقد صنّف عالم الاجتماع الالماني ماكس فيبر هذه المميّزات بمثابة المرجعية الاخلاقية للرجل السياسي التي تؤهّله الى ان يكون حاكماً وقائداً تاريخياً وهي؛ الشغف في السياسة، والشعور بالمسؤولية، والنظرة السريعة الخاطفة. وبالنظر الى السياسيين اللبنانيين نجد ان معظم الذين تبوأوا مراكز الحكم، او الذين يطمحون لذلك، يفتقدون للصفات هذه، لا بل يُمثّلون النقيض لها. فالشروط التي اعتمدت لايصالهم الى مواقعهم وُضعت على اساس قبولهم بدور حماية الوصاية واللاشرعية واللاحضارة وكل ما لا يتعلّق بحكم الدولة، فاستحقوا بعملهم هذا الدور بامتياز حتى لو نجح بعضهم بحصوله على التأييد الشعبي، ولكنهم فشلوا جميعاً في الامتحان الأصعب، فقد كسِبوا لقب رجال سياسة وفقدوا لقب القائد والحاكم، فخرجوا من التاريخ الناصع الى التاريخ السوداوي المُظلم.
ولأن القيادة التاريخية على نوعين، منها الزعامة التي تُدمّر، ومنها القيادة التي تُعمّر، ولأن هذا هو المعيار الاساسي لخيارات الشعب اللبناني في الانتخابات النيابية القادمة الحاسمة في مسار الوضع اللبناني وتقرير مصير لبنان، ولأن الفرق بين القائد، الذي لا يخاف على نفسه بل على جماعته ومجتمعه، فلا يهرب ولا يخشى الاعتقال ويتجرّأ على مواجهة السلطة الخائنة، والزعيم، الذي يخشى على ذاته فيفاوض دائماً لانقاذ دوره وحياته مُضحّياً بالآخرين من رفاقه، ولأن القائد هو الذي يُجري تفاهماته من اجل الجماعة، امّا الزعيم فيُقدم عليها من اجل تعظيم نفسه، ولأن القائد هو الذي يُلغي من ذاته، فيرفض تسليط الاضواء على حياته الشخصية ويطلبها لاعماله من اجل المجتمع، امّا الزعيم المُلهم، فالمزايدات لتبجيله هي محور اهتماماته اليومية، ولأن القائد الحقيقي هو الذي يُصاب بجسده كالمقاومين الاشدّاء، والزعيم الصوَري هو الذي يُحارب بأجساد رفاقه، ولأن القائد الحاكم هو الذي ابى ان يجذب الناس بالخديعة بل بالتوعية، امّا الزعيم فهو الذي ابى ان يكون صادقاً مع الجماعة، ولأن القائد الحاكم الحكيم هو الذي يقبل ان يعترف بالخطأ وان يحاكم نفسه وان يناقش ويُحلّل ويجمع البراهين والادلّة، امّا الزعيم فنظرته إلهية وحروبه إلهية ونصره إلهي، وهو الذي يتجرّأ على اعتبار نفسه مُنزّهاً عن الخطأ، ولأن من يحكم اليوم هو الزعيم الفقهي الذي يحكم الزعيم المؤلّه الذي يحكم الزعيم المُعظّم، ولأنه وصل لبنان في زمن حكم الزعماء السيئين الى الدمار والخراب وإنهيار القيم وما زال ماضياً بهذه الطريق، فالويل للبلد ولهذا الشعب إن لم يُحسن الاختيار في الانتخابات النيابية القادمة. واختم بقولٍ للمفكّر اللبناني الكبير شارل مالك الذي استحقّ بجدارة لقب قائد الفكر اللبناني الحرّ “إن فعل صناعة التاريخ تصنعه ثلاثة عوامل اكيدة؛ الحرّية والمسؤولية والقرار، فقط الانسان الحرّ يستطيع اخذ القرار، وفقط الانسان المسؤول يملك الحرّية للقرار، وفقط صاحب القرار يستطيع صنع التاريخ”.