في محاولة قراءة مشهد الانتفاضة اللبنانية المستمر منذ 17 تشرين الأول، يمكن ملاحظة أن هذه الانتفاضة أحدثت اختراقاً في البنى التقليدية على مستوى طوائف عدة، أحدثت اختراقاً قوياً في البنية المسيحية والذي أدى الى خروج المنتفضين على الزعامات المسيحية ولا سيما القوة التي مثلها “التيار الوطني الحر” برئاسة جبران باسيل وامتداداً إلى رئيس الجمهورية، ساعد على هذا الخروج التنوع والتناقضات الفعالة داخل هذه البيئة، وكذلك الحال داخل البيئة السنية التي خرج المنتفضون من داخلها على رئيس الحكومة سعد الحريري ومختلف الزعامات السنية من دون تهيّب أو تردد، فلم تتهيّب مدينة طرابلس أن تنزع صور زعاماتها وسياسييها عن كل جدران المدينة واعمدتها وشرفات المنازل، على رغم محاولات حثيثة لاستنهاض عصب مذهبي أو طائفي كانت الانتفاضة اللبنانية وما زالت تعبيراً عن التمرد والاحتجاج على زعماء الطائفة وممثليها في سياق التمرد على السلطة الحاكمة على وجه العموم.
لعل البيئتين المسيحية والسنية هما الأكثر حضوراً في مشهد الانتفاضة اللبنانية، من زاوية التمرد على السلطة الطائفية، وهو في نسبة أقل لكنها حاضرة في البنية المجتمعية الدرزية التي أظهرت بحدود ملامح خروج على السلطة داخل الطائفة، وهو ما يدفع زعيم “الحزب الاشتراكي” وليد جنبلاط إلى محاولة تفادي الاهتزازات البنيوية لزعامته الدرزية، ودعا أخيراً لملاقاة الانتفاضة بوسائل منها محاولة تبني مطالبها أو من خلال الدعوة الى حزب تقدمي اشتراكي جديد، سعياً إلى امتصاص الاحتجاج والنقمة المتنامية وهذا المسعى هو للخروج من قوالب تقليدية قبل أن يتضح المطلب السياسي للانتفاضة اللبنانية والذي لم يزل غائباً.
يجدر القول إن البيئة الشيعية شهدت احتجاجات مطلبية غير مسبوقة في عصر الثنائية الشيعية، كانت صور مسرحاً لها في بداية الانتفاضة وكذلك مدينة النبطية وبلدة كفررمان وبعض الحواشي الريفية التي أمكن رصدها في العديد من القرى والبلدات في الجنوب والبقاع من دون أن ننسى مدينة بعلبك التي انتزع المنتفضون فيها حق التظاهر الذي صودر فيها منذ عقود. ليس ما جرى في صور والنبطية وفي بعلبك وفي غيرها من الهوامش المجتمعية الشيعية، أمراً عادياً، بل هو حدث استثنائي يصعب رصد ما يشبهه في العقود الثلاثة الأخيرة، لجهة الاحتجاج في الشارع على السلطة من خارج سطوة طرفي الثنائية الشيعية واشرافهما. بل ثمة عمل بطولي وكسر لحواجز نفسية وسياسية لم يكن من الممكن اختراقها من دون هذا المشهد اللبناني الممتد في الجغرافيا وفي ديموغرافيا الطوائف.
لكن ذلك لا يعني أن التمرد أخذ طابعاً مجتمعياً، هو لا يزال أقرب الى التمرد الفردي والاحتجاج المطلبي، الحراك في البيئة الشيعية لم يحدث خرقاً مجتمعياً حقيقياً، يجعل طرفي الثنائية الشيعية خائفين منه، فالاختراق المجتمعي لا يزال خجولاً، فإلى جانب حالة الرعب والخوف المسيطرة في البيئة الشيعية، نجحت الثنائية الشيعية في ترسيخ سيكولوجيا مجتمعية تفكر بطريقة مختلفة، ساهم في اختلافها عن بقية المكونات اللبنانية، عزل المجتمع الشيعي عن المجتمع اللبناني، وهو عزل نفسي وثقافي ونشوء شبكة مصالح مغلقة، فالفرد الشيعي لا نافذة له على الدولة ومؤسساتها ولا على العمل الخاص من خارج حركة “أمل” “وحزب الله”، وهذه ظاهرة لا يمكن معاينتها خارج المجتمع الشيعي في لبنان. وهو ما ساهم في الغاء أي دينامية أو حراك طبيعي داخل الجماعة الشيعية.
واذا دققنا في الاحتجاجات التي عبر عنها الحراك في المناطق ذات الغالبية الشيعية، يمكن ملاحظة أن المسّ بقيادتي الثنائية الشيعية بدا خجولاً اذا ما قيس بما جرى لدى الطوائف الأخرى ولا سيما لدى المسيحيين والسنة، من دون أن نقلل من جرأة وبطولة أولئك الذين انتفضوا في صور والنبطية، وهي بطولات فردية أكثر منها مجتمعية، ولقد شكل اليسار بأوجهه المختلفة مع بعض الناشطين في المجتمع المدني عصب هذا الحراك في البيئة الشيعية عموماً، لكنه لم يحقق الاختراق المجتمعي وبقي على رصيفه.
بقاء الحراك في البيئة الشيعية على صورته المطلبية، والانتفاضة اللبنانية على المدى المطلبي، فذلك يتيح المجال للسلطة السياسية المتحالفة في ما بينها في كل لبنان، قدرة على استيعاب الحراك ببعض المطالب والوعود وصولاً الى تشكيل حكومة تكنوقراط، لكن من دون المسّ بقواعد السلطة ونظامها القوي، وهذا لن يتحقق طالما أن الانتفاضة اللبنانية لم تتبلور في حالة سياسية، أي بالانتقال من المطلب المعيشي الى المطلب السياسي التغييري. الجسم السياسي العابر للطوائف وحده القادر أن يشكل الغطاء لحماية الانتفاضة اللبنانية وللاختراقات داخل الطوائف وفي المجال الشيعي على وجه الخصوص.