حملت الايام الاخيرة مجموعة من الإشارات التي توحي بإمكان فتح فجوة في “جدار العزل” الغربي والاقليمي الذي يرتفع حول لبنان منذ فترة. فهل من متغيّرات حقيقية تُمهّد لتراجع وتيرة الضغوط ام انّ المرونة في بعض المواقف ليست اكثر من قشرة خارجية لا تبدّل الكثير في لب الأزمة؟
لعل لقاء الخبز والملح بين الرئيس حسان دياب والسفيرة الأميركية دوروثي شيا، كان الأبلغ في دلالاته، لا سيما انه أتى بعد نفور وتوتر.
وترافقت البراغماتية الأميركية حيال حكومة دياب مع انفتاح عراقي – كويتي – قطري على لبنان، ما أعطى انطباعاً بأنّ هناك قراراً متّخذاً بتخفيف الحصار المَضروب عليه، عبر منحه “حديقة خلفية” تسمح له باستجرار “الأوكسجين الاقتصادي” الذي يمنعه من الاختناق، إنما من غير أن يُداويه، على قاعدة: لا انهيار ولا استقرار.
طلائع مؤشرات الليونة الأميركية ظهرت، وفق اوساط رسمية، مع إيحاء وزير الخارجية مايك بومبيو في تصريحه الاخير بأنّ هناك نوعاً من التمييز بين “حزب الله” والدولة اللبنانية، “الأمر الذي أوجَد هامشاً للمناورة الدبلوماسية، سرعان ما استثمرته شيا باجتماع مطوّل مع دياب الذي استبقاها على مائدة الغداء”.
عندما زارت شيا السرايا الحكومية برفقة قائد المنطقة الوسطى في الجيش الأميركي، حصل نقاش سريع “عالواقِف” بينها وبين دياب حول ملابسات التشنّج الذي ساد العلاقة الثنائية بعد تصريحاتها المرتفعة السقف، ورد رئيس الحكومة الرافض لتجاوز الاعراف والأصول الدبلوماسية، ثم اتفقا على عقد لقاء آخر لاستكمال البحث.
إنطوى الاجتماع الثاني على مقدار كبير من الصراحة في شرح وجهات النظر وعرض الهواجس المتبادلة، حيث سألت شيا رئيس الحكومة: هل أنت جاد في الذهاب إلى الشرق؟ فأجابها انه لم ينفصل عن الغرب ولا يريد أن يدير له ظهره، “لكن في الوقت نفسه لن أدع اللبنانيين يجوعون، ولن أقف مكتوف اليدين إزاء الحصار الذي نتعرّض له”.
اكثر من ذلك، كان دياب مباشراً في مخاطبة ضيفته، قائلاً لها: أنتم تحاربوننا وتحاصروننا.
َالّا انّ السفيرة الأميركية نفت وجود حصار على الشعب اللبناني، لافتة إلى انّ واشنطن كانت ولا تزال تدعم الجيش. كذلك أبدَت مرونة في تَفهّم حاجة لبنان الى دعم اقتصادي في هذه المرحلة، موضحة انها ستجري الاتصالات اللازمة للمساعدة في هذا المجال.
وتعتبر مصادر واسعة الاطلاع انّ الواقعية الأميركية في التعاطي مع دياب وحكومته، عقب التصعيد ضدهما، إنما تعود إلى الأسباب الآتية:
– تعثر مشروع إسقاط الحكومة الذي كانت تدعمه واشنطن، فبادرت الى التكيّف مع الأمر الواقع وهي المعروفة تاريخياً بقدرتها على اعتماد براغماتية فائقة في سلوكها، تِبعاً لما تقتضيه مصالحها.
– قرار دياب بالمواجهة رداً على محاولة حشره في الزاوية الضيقة، وجديّته في التوجه شرقاً للتعويض عن الأبواب الغربية المغلقة امامه، ما أقلقَ الأميركيين الذين صاروا يخشون من ان تؤدي سياسة الإفراط في الحصار الى ارتماء لبنان كلياً في أحضان الصين، وربما إيران لاحقاً. وبالتالي، فإنّ عدم خسارته أساساً يبقى أسهل لهم من محاولة استرداده.
– حسابات السفيرة الأميركية التي ربما تكون قد شعرت بعد تعذّر إسقاط الحكومة بأنها، ونتيجة مواقفها واجتهاداتها، ستتحمّل شخصياً المسؤولية عن أي قطيعة بين إدارتها ولبنان، مع ما سيرتّبه ذلك من “انزياح” في موقعه نحو المحور المعادي للولايات المتحدة، الأمر الذي سيشكّل إخفاقاً للسفيرة ولمهمتها.
امّا “الحديقة الخلفية” التي يبدو أنه سيُسمح للبنان بالتواصل معها، حتى يستطيع التقاط أنفاسه من دون اعتراض اميركي، فهي تَضمّ من حيث المبدأ كلّاً من العراق والكويت وقطر.
بالنسبة إلى بغداد، تفيد المعلومات انّ علاقة وثيقة وودية نشأت بين دياب ورئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي اللذين تبادلا في الآونة الأخيرة الاتصالات والرسائل، ضمن إطار البحث في مجالات التعاون المشترك، خصوصاً على مستوى إمكان ضَخ النفط العراقي الى لبنان بأسعار منخفضة وبدفع مؤجّل. والواضح انّ التقاطع الأميركي – الإيراني حول الكاظمي يسهّل مبادرته حيال حكومة دياب، ويمنحها مظلة حماية.
على خط آخر، علم انّ الاتصالات مع قطر قطعت شوطاً متقدماً، من شأنه ان يمهّد لزيارات قريبة، وسط آمال رسمية في أن تطلق الدوحة مبادرة مالية ما في اتجاه لبنان.
َكذلك، تحمل زيارة المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم الى الكويت دلالة لافتة في هذا التوقيت، بينما كشف مطلعون انّ هناك بحثاً مع القيادة الكويتية في احتمال الحصول منها على نفط منخفض السعر ومؤجل الدفع.
وبناء على كل هذه الوقائع، يشير المطلعون على كواليس الاتصالات الدبلوماسية الى انّ الاسبوعين المقبلين سيكونان مفصليين لجهة تحديد حجم الانفتاح الممكن على لبنان من قبل بعض الدول العربية والاوروبية، وترسيم حدود البراغماتية الأميركية وما اذا كانت ستُفضي حقاً الى تخفيف الحصار المضروب على لبنان أم انها شكلية فقط ولا مفاعيل ايجابية لها عمليّاً.
وأيّاً يكن الأمر، تعتبر اوساط السرايا انّ الحكومة ربحت جولة اضافية في حرب الالغاء التي تشنّ عليها منذ تشكيلها، مشيرة الى انّ دياب تمكّن من استعادة المبادرة بعد الضَخ المنهجي الذي تعمّد ترويج انطباع بأنّ حكومته اقتربت من لحظة الانهيار.
وتلفت الاوساط الى انّ انخفاض سعر الدولار في السوق السوداء يؤكد انّ العملة الخضراء كانت أحد الأسلحة المستخدمة ضد الحكومة، وانّ جانباً من ارتفاعها كان مُفتعلاً بهدف التحريض على تغيير دياب، آملة في أن يكفّ البعض عن استخدام هذا السلاح في معاركه السياسية والشخصية.