أجرت صحيفة فايننشال تايمز تحقيقًا أماط اللثام عن اسباب شروع استراليا بإلغاء صفقة تبلغ قيمتها عشرات الميليارات من الدولارات، بهدف شراء غواصات من فرنسا، وابرامها صفقة أخرى بديلة مع الولايات المتحدة وبريطانيا. وقد سبّب القرار الاسترالي حنقًا لفرنسا، ما أدى إلى خلاف حادّ بين باريس وحليفتيها واشنطن ولندن. وبذلك سيكون في حوزة استراليا عبر شراكتها الأمنية الجديدة مع الولايات المتحدة وبريطانيا، حوالي 8 غواصات تعمل بواسطة الطاقة النووية عبر استخدام تكنولوجيا أميركية وبريطانية. وكانت الصفقة الملغاة والتي كانت قد وُقّعت من شركة نافال غروب الفرنسية عام 2016 قد قُدّرت قيمتها المالية بين 40 و90 مليار دولار، وقوامها اسطول مؤلف من 12 غواصة تقليدية تعمل بواسطة الديزل. وحسب الفايننشال تايمز فإن دوافع استراليا لإلغاء التعاقد مع فرنسا مردها إلى الفوارق بين الغواصات في الصفقة الملغاة ونظيراتها في الصفقة الجديدة، علمًا أن الفارق الرئيسي يكمن في تقنية الدفع التي تعتمد عليها الغواصات المبرم عقدها مع أميركا وبريطانيا، تماشياً لتقنية الدفع التي تعتمد عليها الصفقة الفرنسية القديمة، وهي بالطبع أضعف من الأميركية والبريطانية. من هنا فإنّ الغواصات الفرنسية التي ألغيت صفقتها مزوّدة بمحرّكات كهربائيّة يتم شحنها بواسطة محركات الديزل، وهي أصغر حجمًا، ويمكن تشغيلها بشكل صامت عن طريق ايقاف محركات الديزل والاعتماد على طاقة البطاريات.
ومن جهة أخرى فإن الغواصات التي تعمل عبر الطاقة النووية المتّبعة في الصفقة الجديدة، مجهزة بقدرة أعلى على التحمل، نظرًا لامتلاكها مفاعل يولّد الكهرباء التي تشغل المحركات وتدفع المراوح، بينما تستخدم الحرارة الناجمة من تشغيل المفاعل لتوليد البخار التي تدير التوربينات؛ فضلًا عن أن أهم ميزة للغواصات التي تشغل بالطاقة النووية التي تستوعب كمية وقود كافية لمدة تصل إلى 35 عامًا من التشغيل، وتحتاج فقط للعودة إلى البر وللصيانة والاعدادات على فترات متباعدة. وقالت الصحيفة أي الفايننشال تايمز بأن رئيس الوزراء الاسترالي سكوت موريسون قال بأنه غير نادم على قرار يرتقي بالمصلحة الوطنية الاسترالية نحو الصدارة، لكن الخبير في معهد رويال يونايتد البريطاني تريفور تايلور كان له رأيًا آخرًا، إذ رأى أن المسار الذي اتبعته استراليا لشراء غواصات نووية لا يخلو من التحديات، نظرًا لافتقارها إلى البنية التحتية اللازمة. في حين قال رئيس مركز الأمن الاميركي الجديد ريتشارد ديفونتين لفايننشال تايمز ان استراليا ستعمد إلى نشر صواريخ تقليدية على الغواصات الجديدة، التي بمقدورها حمل شحنات أكثر من الأسلحة مقارنةً بالغواصات الفرنسية. كما أن قرار الحصول على صواريخ توما هوك الوارد في اتفاق التعاون مع واشنطن ولندن يمكن ان يسمح بإطلاق الصواريخ من السفن أو الغواصات وبشكل قوة إضافية رئيسية لقدرات استراليا التسليحيّة. ومن ناحيته فال اريك سايدز الخبير العسكري في معهد أميركان انتربرايز ان تحميل الغواصات بصواريخ توماهوك، سيعمل على ارتقاء القوة الضاربة التقليدية للبحرية الاسترالية نحو الأفضل، وتابع قائلًا أنّ توماهوك قادر على جعل القطع البحرية تستهدف منشآت على بعد ألف ميل أي 1600 كيلو متر، ويذكر أن صواريخ توماهوك ستجعل استراليا تكتسب قدرة هائلة على ضرب أهداف في الصين في حال نشوب أي نزاع، وهذا الأمر تعتبره أميركا وحلفائها في غاية الأهمية لأن واشنطن وحلفائها سيكون بحوزتهم عدد أقل من القطع العسكرية قبالة سواحل الصين وهذا سيزعج بالطبع الجيش الصيني.
من هنا فإن الطعنة التي تلقتها فرنسا من الولايات المتحدة عبر الغاء صفقة بيع الغواصات الفرنسية إلى استراليا واستبدالها بصفقة غواصات أميركية بريطانية نووية سيكون لسد انعكاسات وتأثيرات على الشرق الأوسط. وتُعتبر شراكة بريطانيا مع الولايات المتحدة في الصفقة مصدر إزعاج كبير آخر لفرنسا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتبنّي جونسون لاستراتيجية بريطانيا العالمية التي تستهدف إلى حدّ كبير منطقة المحيطين الهندي والهادئ. ويأتي الاتفاق أيضًا، ليظهر بكل وضوح الخلاف بين فرنسا وأميركا بشأن الصين، مع استمرار إصرار الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون على ألا تنجرف فرنسا في المواجهة القاسية المتزايدة بين الصين والولايات المتحدة. إن لفرنسا أدوار بارزة في الشرق الأوسط، وهنالك دائمًا تناقضات بين باريس وواشنطن حول المنطقة، فعلى سبيل المثال، فقد اكّدت فرنسا مرونة في المحادثات مع حزب الله، كما حضرت الإجتماع الأخير في بغداد والذي تواجدت فيه تركيا وايران ودول رئيسية أخرى في الإقليم، بينما لم تحضر واشنطن ولندن هذا الإجتماع. ويبدو أن فرنسا تريد ان تضطلع بدور أبرز في الشرق الأوسط في الوقت الذي قد تعمد فيه واشنطن ولندن إلى تغيير سياساتهما في المنطقة. فالولايات المتحدة تريد أن تركز على المنافس الرئيسي لها أي الصين، لذا ينبغي أن يكون لهذا الغرض استثمارات كبيرة في القوة البحرية. وما يخيف أميركا ويقلقها هو أن تؤثر حادثة صفقة الغواصات على دورها في الشرق الأوسط، لناحية أن تعمد باريس إلى تقوية علاقتها ولو قليلًا مع خصم أميركا ايران.
كما أن هذا الخلاف قد يسفر عن تداعيات على محادثات الإتّفاق النووي بين القوى الغربية وايران. وما هو المتوقع ان تستمر فرنسا عبر الاتحاد الأوروبي، بعد تلك الحادثة بالعمل على تعميق حمايتها للشركات الاوروبية، ومنع مقصلة العقوبات الأميركية على شركات أوروبية تتعامل مع ايران، فعلى سبيل المثال، فإن شركة بيجو الفرنسية للسيارات لا تتواجد تقريبًا في أميركا، بينما يعتبر السوق الايراني مهمًا لها بشكلٍ كبير. لكن وحسب رأي المحللين والنقاد، مهما قويت قدرة فرنسا على تحدي أميركا في الشرق الأوسط تبقى السياسة الأميركية هي الأقوى نظرًا لامتلاكها العملة الأقوى في العالم الدولار، والذي برأيها يشكّل القوة الوحيدة في الوقت الراهن القادرة على تحقيق الانتصارات من دون إراقة دماء. لكن ورغم رأي النقاد والمحللين هذا، يظهر الصراع الأميركي الفرنسي والاميركي الايراني على الساحة اللبنانية بوضوح، وقد أشار إليه الرئيس ماكرون غداة اجتماعه برئيس الحكومة نجيب ميقاتي بتاريخ 24 أيلول 2021 في الايليزيه عندما توجه إليه قائلًا: وضعكم في لبنان صعب جدًّا، لذا حاولوا ايجاد الحلول الناجحة لمشاكلكم وفرنسا ستبقى إلى جانبكم. وفي دلالة واضحة على أن واشنطن لا تنوي دعم حكومة الرئيس ميقاتي، احيلكم إلى ما أورده مدير السي أي ايه بيل كاسي ونشر كلامه موقع الخنادق المتخصص في متابعة الشؤون الاستراتيجية والعسكرية والسياسية لمنطقة غرب آسيا، اذ يقول، لا يجب أن نكون في الواجهة من خلال تطويرنا لمنظمات المجتمع المدني الـNGO’S ولا يجب أن نظهر كممولين لها. نحن نهدف والكلام لكاسي إلى نسف الطقم السياسي التقليدي الفاسد في لبنان، ليكون البديل عن تلك المنظمات ولا نريد أن يكون لحزب الله تمثيل حكومي بعد اليوم. نريد دعم هذه المنظمات في قضية إجراء انتخابات نيابية تكون المالكة فيها للأكثرية البرلمانية، انتهى كلام كاسي. وهنا فإن الملاحظ بأن فرنسا ليس من أولوياتها نسف الطاقم السياسي الحالي وعصبه الأحزاب اللبنانية التقليدية وكما اسلفت فإن التقارب بين فرنسا وايران بالنسبة للبنان بات ظاهرًا للعيان، ومشكلة فرنسا مع حزب الله بالأساس ليست بالمشكلة العويصة، وبالتالي يمكن الاعتبار بأنّ قضية الغواصات قد صبّت الزيت على النار فيما يتعلّق بالعلاقات الفرنسية الأميركية.
وهنا سؤال يطرح نفسه على بساط البحث، هل ستسمح أميركا المسيطرة بنسبة كبيرة على قرارات صندوق النقد الدولي بأن يفي الصندوق بوعده ويقدم المساعدات المالية للبنان بعد الخلاف الأميركي الفرنسي حول موضوع الغواصات الفرنسية والأميركية؟ أن امكانية عدم ايفاء صندوق النقد بوعده باتت مطروحة في ظلّ المستجدات والتطورات الأخيرة، وان افضل من تكلّم عن صندوق النقد الدولي، كان سفير لبنان السابق في واشنطن رياض طبارة حيث قال بتاريخ 11 أيار 2020 لموقع النشرة اللبناني، ليس أمام لبنان أي حلّ داخلي للخروج من أزمته الراهنة ولا بدّ من مساندة خارجية له، وبطبيعة الحال أضاف طبارة حينها بأن أي مساعدة من هذا النوع ستكون من أميركا والغرب أي صندوق النقد الدولي، واصفًا الصندوق بأنّه ذراع أميركية وقد تم تنظيمه على هذا الأساس، فواشنطن تملك 17 بالمائة من الأصوات داخله وتملك مع حلفائها أكثر من خمسين بالمائة وبالتالي أي قرار ينوي اتخاذه الصندوق يحتاج عمليًّا إلى موافقة البيت الأبيض والإدارة الأميركية، ويحتاج الى تغيير في قوانينه إلى نسبة 85 بالمائة وهنا تملك أميركا حق النقض «الفيتو» وبذلك فهي قادرة على ضمان ألا يحصل أيّ تغيير في قوانين الصندوق إلّا من خلال موافقتها. وبناءً على كلام طبارة يمكن لواشنطن العودة إلى معادلة تقول تسليم سلاح حزب الله مقابل افراج الصندوق عن المساعدات المالية وهذا ما لا تحبّذه فرنسا كثيرًا.